في الندوة التي عقدتها صحيفة (الاتحاد) في أبوظبي في 19 و20 يناير/ كانون الثاني الجاري بمناسبة صدور العدد عشرة آلاف من الصحيفة اجتمعت نخبة من الاعلاميين في الخليج والعالم العربي، وكانت الندوة مجالا لعرض مشكلات الصحافة الخليجية وهذه المشكلات مشتركة بين الصحف الخليجية، وهي أمراض مزمنة بحاجة إلى معالجة إذا كان الخليجيون يودون اللحاق بعالم اليوم المتطور.
مشكلة مهمة أشارت إليها الندوة هي كون الصحافة الخليجية تنموية بالأساس تصفق عندما يتم بناء جسر، ولكنها تختفي عندما ينهار ذلك الجسر، تصفق لبناء مصنع، ولكنها تختفي عندما يصاب عامل في ذلك المصنع.
هذا التصفيق تأسس على اعتقاد الرسميين ان «الأخبار الجيدة هي الأخبار الجيدة»، بينما عالم الصحافة في كل بلد متقدم يعتمد على القول إن «الأخبار السيئة هي الأخبار الجيدة». فالصحافة أساسا لكشف ما هو سيئ ولكشف الخلل في مختلف المجالات، وليس دورها التصفيق والتهليل والتبجيل والتسبيح بالحمد. الصحافة أساسا وجدت لاخبار الناس بأن شيئا ما غير اعتيادي يحصل حولهم وسيؤثر عليهم إذا لم يبادروا لمعالجته. ويرتبط بالفهم الرسمي للخبر اعتقادهم الخاطئ أن الصحافيين يتآمرون عليهم، وهذه العقيدة الخاطئة دفعت إلى إصدار قوانين تحد من الرأي وتمنع النشر وتحول الصحافي إلى موظف مستعبد من الرسميين وتتم تصفية مفهوم «السلطة الرابعة».
الفهم الرسمي حوّل الصحافة إلى صحافة الخبر الرسمي بحيث تقرأ الصحف - عادة - لتجد أن الأخبار الرسمية تغطي الصفحات، ويمكنك أن تنتقل من صحيفة إلى أخرى من دون أن تجد فرقا في نوعية الخبر وبسبب الضغوط الرسمية على الصحافة لم يستطع الصحافي نقل خبر ما حتى لو حصل ذلك الخبر على بعد أمتار من مبنى الصحيفة لخوف الصحيفة من اختراق الخط الأحمر الرسمي. ولذلك طغى الخبر الخارجي على الخبر والتحقيق المحليين، لأن الخبر الخارجي أقل خطورة على حياة الصحافي ومعيشته. ثم هناك الرقابة المفروضة في وزارات الإعلام ومنعها توزيع الصحف الخليجية الأخرى لمساعدة الصحف المحلية في السيطرة على السوق المحلية. وهذا بدوره يقلل من حجم التوزيع ويقلل من تأثير الصحافة عبر حدودها المباشرة، ويقلل المنافسة وهذا يؤدي إلى الخمول وعدم التجديد والابداع.
إن الصحافة إذا لم تتحول إلى صحافة الوطن الذي تعيش فيه وتدافع عن المواطن وتنشر الخبر والتحقيق وبالتالي توسيع الحريات العامة. فانها لا فائدة منها، لأنها تعيش تحت «دولة الوصاية» التي تفرض الرأي الرسمي الذي لا يهتم بالشئون المرتبطة بالناس، إنما يهتم بالمسئولية الجماعية عن كل تصريح يصدر. وبالتالي عندما تصبح الصحيفة «بوقا للسلطة» تفقد قيمتها التنموية أيضا وتفقد دورها الأساسي وهو تمثيل الرأي العام في كل الشئون الحياتية التي تلامس المواطن.
الصحافة اليوم هي صحافة الديمقراطية والشفافية وتمكين المواطن من خلال توفير المعلومة، لأنَّ «المعلومات هي القوة». وإذا لم تكن الصحافة مهتمة بالمواطن أولا، فإنها لا فرق بينها وبين النشرات التي تصدرها إدارات العلاقات العامة التابعة لكل وزارة. إن سياسة الانفتاح الإعلامي الذي دشنته التجربة البحرينية مجال خصب للدراسة. فمنذ السماح بإصدار «الوسط» انتقل الخبر والتحقيق المحلي من وضع سابق لا يهتم بالمواطن ويركز فقط على ما قاله المسئول، إلى حيوية تنافسية بين الصحف المحلية الثلاث. وهذا أمر يخدم الوطن إذا تنافست الصحف المحلية في التطرق إلى ما يهم ويلامس حياة المواطن اليومية.
إن هناك محاولات من البيروقراطية الرسمية لتحجيم دور الصحافة من خلال منع وصول الخبر أو التأثير على التوزيع بالطرق السلطوية، مثل منع دخول صحيفة «الوسط» إلى المساجين بينما يسمح لغيرها، ومثل التركيز على تلخيص أخبار هذه الصحيفة من دون تلك الصحيفة في وكالة الانباء الرسمية أو التلفزيون الرسمي، الخ، ولكننا نعتقد أن مثل هذه الخطوات هي ردود أفعال متوقعة ممن لم يتعود على العمل السياسي الحديث القائم على استقلال السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وانفصالها عن بعضها الآخر، بالإضافة إلى استقلال سلطة الرأي العام المتمثلة في الصحافة، واستقلال مؤسسات المجتمع المدني، وتوفير المناخ الأفضل للقطاع الخاص.
هذا الاستقلال والانفصال لايعني التفكك، وإنما يعني تعاون هذه السلطات مع بعضها الآخر ومساندتها لبعضها الآخر، بدلا من تحول كل شيء إلى هيئة مركزية واحدة مرتبطة بالسلطة التنفيذية، وبالتالي تتحول إلى دولة «الوصاية» الدكتاتورية.
إن تجربة البحرين الصحافية منذ بدء المنافسة الحقيقية بصدور «الوسط» في السابع من سبتمبر/ أيلول الماضي هي تجربة رائدة تضاف إلى السجل الإصلاحي الذي دشنه جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة. ان استمرار هذه التجربة في التطور واستطاعة الصحافي التحول إلى صاحب رأي محترم، وإن اختلف رأيه مع الصحافي الآخر ومع المسئولين إنما هو الحال الطبيعية لعالم اليوم الذي يستمد تطوره من وجود الرأي الحر الذي يتنفس من دون قمع من قانون مطبوعات وصحافة ومن دون محاربة من السلطات التنفيذية بوسائل لن تنفعها في نهاية المطاف، ذلك لأن الحرية ليست قرارا رسميا وإنما إرادة شعبية، وهذه الإرادة لا يمكن إلغاؤها إلا اذا كان هناك من لا يود لبلده تنمية اقتصادية وحياة ثقافية إنسانية. إن الدفع باتجاه تعزيز الحريات الإعلامية هو الذي سيجلب لنا الاستثمارات في مختلف المجالات، ولاسيما في مجالات الإعلام والإعلان والاتصالات والانترنت، فضلا عن نمو عالم المال الذي يشترط وجود شفافية
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 136 - الأحد 19 يناير 2003م الموافق 16 ذي القعدة 1423هـ