لا يدّعي كاتب هذا المقال علميته، ولا يزعم اعتماده منهجا صارما مُؤسسا لاستقراءات مُبرهن عليها... كل ما في الأمر أن هذا الموضوع طارد صاحبه طويلا؛ فكان لابد من الكتابة ليتوقف اللهاث، وتضع المطاردة أوزارها.
تُرى، هل هناك سمات معينة لشخصية الإنسان البحريني تميزه عن غيره؟ وما العوامل التي شكلت هذه السمات؟ وهل هذه السمات قابلة للتغير، أم هي ثابتة عصية على الإزاحة؟
للإجابة عن الأسئلة السالفة أو اقتراح مشروعات إجابة عنها نجد أنفسنا مضطرين إلى تصدير «المقال» بمقدمة نظرية «كلاسيكية».
يستخدم الناس مصطلح «الشخصية» استخداما بسيطا في مداولاتهم الكلامية اليومية، بيد أن التحديق في المفردة/ المصطلح يُوقعنا في إشكالات لا حصر لها؛ ذلك أننا يتعذر أن نقف على تعريف مانع جامع لهذا المصطلح، فالشخصية كالأثير أو الكهرباء لا تُعرف إلا بآثارها. كما أنه من الصعب أن نحلل الشخصية إلى عناصرها الأولية، فنحن حين نفعل ذلك نكون قد أفقدناها قيمتها الكلية... لكن، يمكن أن يقال بإيجاز إن الشخصية هي: (المجموعة المنظمة من الأفكار والسجايا والعادات والميول التي يتميز بها شخص عن غيره).
ينبغي أن نلتفت هنا إلى أن التعريف السابق يتناول تعريف الشخصية في جانبها الفردي، وهو الأمر الذي اهتم به علم النفس الذي يدرس شخصية الإنسان بوصفها موضوعا قائما بذاته، غير أن الأمر الذي يهمنا في هذه المعالجة المتعجلة هو الجانب الاجتماعي للشخصية، وهو الأمر البديهي الخطير الذي ندركه جميعا ونخرجه عامدين من دائرة تفكيرنا بجعلهِ موضوعا ممتنعا بذاته.
إن شيئا من التأمل لابد أن يسلمنا إلى الحقيقة الصائبة وهي أن الصانع الأعظم لشخصياتنا هم الآخرون، المجتمع الذي ننمو ونعيش فيه، فنكون صورة له شِئنا أم أبينا، وذلك لأن النَّفس مرآة الغير ينعكس على صفحاتها شعور الجماعة المحيطة بها.
يبقى أن نؤكد أهمية الجانب الوراثي في تكوين الشخصية، فلا يخفى على أحد ما للوراثة من أهمية في بناء روح الإنسان وجسده، وهذا واضح للعيان حتى من الملاحظات اليومية العادية.
لكن العلماء مازالوا يؤكدون أن كفة المجتمع هي الأرجح دائما في تشكيل الشخصية وبنائها، ولهذا السبب نجد الأفراد الذين ينشأون في مجتمع واحد يتشابهون في بعض الخصائص التي تميزهم عن أبناء المجتمعات الأخرى، فعلى رغم التفاوت بين أبناء المجتمع الواحد نراهم مشتركين في صفة عامة تجعلهم يختلفون عن غيرهم بفوارق شخصية واضحة، فيكون الإنسان الأميركي مختلفا عن الإنجليزي، والبحريني مختلفا عن العماني وإن كان قريبا منه.
غير أن هذا لا يعني بالطبع السطوة التامة للمجتمع على أفراده، فلابد أن تظل هناك سِمات أبيَّة على التسلُّط داخل شخصية كل إنسان، إذ يمكن أن يقال إن هناك نَفسَين للإنسان: نفس تريد الخضوع لقيود المجتمع، ونفس تريد التمرُّد والثورة على هذه القيود.
وقبل البدء في تناول ما نراه سمات لشخصية الإنسان البحريني، لابد من تأكيد أنها ليست سمات جامعة مانعة تنطبق على كل فرد من أبناء هذا المجتمع، ذلك أن كل مجتمع فيه من الأفراد من يتمرَّدون على الأمر الواقع، ويثورون عليه، لكن هؤلاء دائما قلة لا يُقاس عليهم.
الأمر الثاني: إنّ بيان السلبيات التي تتسم بها شخصية الإنسان البحريني لا تعني الانتقاص من هذا الكائن الجميل، بل هي محاولة متواضعة لوضع اليد على بعض الجروح التي لما تزل تنزف.
الخوف
أرى أن الخوف أبرز سمة من سمات شخصية الإنسان البحريني، إذ أسهمت عوامل كثيرة في تشكيل هذه السمة، ولعل أول عامل جذَّر هذه النبتة في نفس الإنسان البحريني «السلطة التنفيذية»... فكثير من أبناء هذا المجتمع الصغير وُلدوا وشبّوا في أجواء سمتها القمع والتخويف: «أذكر عندما كنت طفلا في بداية الثمانينات كان يدسون المصاحف وصور علماء الدين في حفر عميقة ويهيلون عليها التراب، وحين نسأل لماذا؟ كانوا يجيبون: «الشرطة ـ الشغب»، كانت هاتان المفردتان من أوائل المفردات التي تدخل في قاموس أطفالنا حتى عهد قريب».
أما العامل الثاني الأهم والذي قد لا يستطيع الكثيرون ذكره فهو «العامل الديني». ذلك أن تناول الدين كان ولما يزل يعتمد اعتمادا كبيرا على الترهيب من دون الترغيب وخصوصا في المناطق القروية الأكثر محافظة، ما يجعل من الموت مثلا ظاهرة مُرعبة تجعلنا نتعامل معها بسلبية قاتلة بدلا من استثمارها وتصييرها عاملا إيجابيا بناء. ولايزال العامل الديني يمارس سطوته، ذلك أن سيف بعض المتدينين مسلَّط عليكَ دائما، فإذا ما خالفتهم في رأي فأنت المنحرف الذي يجب أن تكون من المخلوعين.
التردُّد
والتردد فرع من فرع الخوف ولازمة من لوازمه، ذلك أن القرار المتسرع غير المحسوب من شأنه أن يفقدك حياتك: ألا يفقد الإنسان حياته حين ينبذه مجتمعه؟!
والحياة في مجتمع البحرين حياة قلقة متوترة أبدا، والخيارات فيها قليلة، فإما أن تكون من أصحاب اليمين، وإما من أصحاب الشمال، والنتيجة أنْ يبقى الواحد منا مُذبذبا، لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فحتى على المستوى البسيط تجد البحريني حائرا مترددا، أي الدراسات يدرس؟ أي النساء يتزوج؟ والسبب في ذلك بسيط: أنه لا يدري ماذا سيجلبه المستقبل؟
التسلُّط
ولأن الإنسان البحريني عانى من القهر طويلا، تراه في توق دائم ليكون في موقع الآمر، الرئيس، ولذلك تجد الواحد منا يحزن كثيرا حين يصل البعض إلى مراكز مرموقة، والسبب أننا نريد هذه المواقع لنا لنستعرض قدراتنا، ونبرهن على نجوميتنا، ونمارس التسلُّط الجميل، ألا يتلذذ بعض صغار الموظفين في إذلال إخوانهم؟ أعطهم كراسي أكبر وانظُر ماذا يصنعون
العدد 135 - السبت 18 يناير 2003م الموافق 15 ذي القعدة 1423هـ