العدد 134 - الجمعة 17 يناير 2003م الموافق 14 ذي القعدة 1423هـ

جدلية العلاقة بين الأنظمة والعولمة والحركات الإسلامية

محمد أبوالقاسم حاج محمد comments [at] alwasatnews.com

.

من الواضح ان ثمة «مضاربة أمنية» ذات طابع تنسيقي تجمع ما بين الانظمة و«العولمة الاميركية» لمواجهة الحركات الاسلامية . وعلى رغم رغبة الولايات المتحدة الاميركية لأن تفتح هذه المضاربة جميع الطرق لحوادث «اتساق منهجي» بين

ها وبين هذه الانظمة، الا ان هذه الطرق غير سالكة، وذلك بحكم الفارق (النوعي) الموضوعي والتاريخي بين تركيب هذه الانظمة ومجتمعاتها من جهة وبين العولمة الاميريكة من جهة أخرى. فالنظم او الانظمة تنتمي في تركيبتها لمجتمعات العالم الثالث، أو المتخلف من دون التطور الصناعي في حين تنتمي العولمة الاميركية لمرحلة ما بعد الثورة الفيزيائية الفضائية والعصر التكنولوجي - الالكتروني بآفاقه العالمية.

هذا الفارق النوعي يحول من دون الاتساق المنهجي ما بينهما، فلا تكون العلاقة بعد ذلك الا في اطار «الاستتباع» الاقتصادي والاستراتيجي والأمني بمنطق «تداخل المصالح» وليس بالضرورة بمنطق «العمالة» فحين سأل بعضهم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر عن مدى التزامه بمجموعة دول «عدم الانحياز» بعد حرب العام 1967 أجاب «بأن حياد مصر قد دفن في رمال سيناء».

ولا تمتلك قوى العولمة في احشاء مجتمعاتنا بوصفها تقليدية التركيب - وان تفاعلت مع «التحديث» - سوى «شرائح فوقية» من صفوة الصفوة التي تنادي بالحداثة والعلمانية والليبرالية، محاولة استنهاض قوى المجتمع «المدني» ومنظماته وهي تعلم ان هذه القوى المدنية «قيصرية الولادة» وتعيش مرحلة «ارهاصات الوجود» ولم تشرعن بعد وجودها المؤسسي على قواعد اجتماعية راسخة - فهي تطلعات قوى حديثة في واقع تقليدي.

فلكي تخترق العولمة الاميركية الانظمة وتحقق الاتساق المنهجي معها فإن هذه العولمة تفتقر لرسوخ أدواتها وآلياتها في مجتمعاتنا، فلا تبقى العلاقة إلا في حدود الاستتباع الأمني والاستراتيجي والاقتصادي وبالكيفية التي ذكرنا بواعثها.

هذا هو الوجه الاول في العلاقة الجدلية بين العولمة والانظمة.

ما بين الانظمة والحركات الاسلامية:

خلافا لمنهجية الفارق ما بين العولمة والانظمة، فإن هناك ما «يجمع منهجيا» بين الانظمة بمختلف اشكالها والحركات الاسلامية على امتداد الوطن العربي والعالم الاسلامي، فكلاهما مؤسس على مركبات الواقع الجدلي، فإذ يسهل استئصال شرائح الحداثة بحكم بنيتها «الفوقية»، وفإنه يستحيل استئصال ما هو اسلامي، بغض النظر عمّا اذا كان حركة او تيارا او حتى جمعية «وقف» لأن ما هو اسلامي هو «أصل ثابت» في تركيب البنية الاجتماعية والدينية والحضارية والثقافية والسلوكية بما في ذلك «العبادات» و«المعاملات» وإيتاء الزكاة وصوم رمضان والحج.

فعبر أربعة عشر قرنا شكل الاسلام «شخصية الامة»، ليس بالمعنى الديني فقط، ولكن حتى الثقافي والعرفي والاجتماعي وتكرست في وعيها ولا وعيها ايضا «وحدة الدين والدولة».

ولكثير من الانظمة «شريعتها» بمنطق «جدل الواقع» وحتى بمنطق النقد السياسي والاجتماعي الحديث، فوافقنا هذا هو الذي انتج هذا التحالف التاريخي.

اما «الانقلابيون» فهم اذا اصدروا البيان رقم (1) بلا أدنى شرعية اجتماعية او تاريخية الا بمنطق «شرعية الثورة» وعمدوا للبحث - بعد ذلك - عن شرعيات تاريخية واجتماعية ناشطة في قلب المجتمع التقليدي الذي انقلبوا عليه باسم التغيير والثورة، فلجأ بعضهم الى الجذور الطائفية والعشائرية ومن لم يجد حوّل المؤسسة العسكرية الى «الولاء البديل» بذات منطق العشائر، في الحسب والنسب على مستوى الرتب.

يشارك الاسلاميون جميع الانظمة هذه الارضية الاجتماعية والتاريخية من حيث التركيب، ومن هنا تتحد كل الانظمة مع كل الحركات الاسلامية ، ظاهرا وباطنا، ضد العولمة بآفاقها الليبرالية والعلمانية فلا يكون ثمة «اتساق منهجي».

ولكنهما سويا ـ الانظمة والحركات الاسلامية ـ يقاربان العولمة أمنيا واستراتيجيا وحتى اقتصاديا بمنطق متبادل حين تقتضي مصالحها ذلك. فالحركات الاسلامية وجدت «ملاذا» لها في الاردن والسعودية وباقي دول الخليج منذ منتصف السبعينات من القرن الماضي.

وكان منطقيا ان يعتبروا انفسهم فروعا لاصول خلفوها من ورائهم ولم يخلفوها العهد، فكان «الضخ المالي» بمختلف الاشكال تجاه مصر وسورية والاردن والى السودان، اذ نشأت المصارف الاسلامية في السودان منذ تحولات نميري وتحالفه معهم العام 1978، وكذلك جمعيات «الاغاثة الاسلامية» وكل وجه خير اسلامي. فاسلاميو السودان أسسوا منذ تلك الفترة بنى تحتية اقتصادية ومالية واجتماعية مكنتهم من الحصول على جميع دوائر الخريجين تقريبا (28 مقعدا من 30) في انتخابات برلمان (86/1989) وعلى دائرة انتخابية مفتوحة أخرى، وتبعتهم مؤسساتهم بعد انقلابهم في 29 يونيو/حزيران 1989 وإلى اليوم.

وفي هذا الاطار صوبت الجهود المالية والدعوية تجاه المجاهدين الافغان اثر انقلاب الشيوعيين بقيادة «محمد نور تراقي» ضد نظام السردار محمد داود خان، في 27 ابريل/نيسان 1978 والاجتياح السوفياتي لافغانستان، وظل الضخ المالي والدعوي متواصلا حتى الى ما بعد انسحاب القوات السوفياتية من افغانستان تحت ضغط بروسترويكا غورباتشوف في 18 فبراير/ شباط 1989، اذ لم يتمكن المجاهدون من دخول كابول على رغم الانسحاب السوفياتي الا بعد ثلاث سنوات في يونيو 1992.

في تلك الفترة الوفاقية بين تلك الانظمة الخليجية والحركات الاسلامية بعث الرئيس انور السادات النشاط في الحركات والتيارات الاسلامية في مصر بعد توليه الرئاسة اثر وفاة الرئيس جمال عبدالناصر في 28 سبتمبر/أيلول 1970، فمنذ 1973 بدأت علاقة السادات بالحركات والتيارات الاسلامية كترياق شعبي مضاد للقوى الناصرية واليسارية، ودفع ببعضها الى افغانستان توافقا مع نصائح مستشار الأمن القومي وقتها زبينغيو بريجيبنسكي غير انه اشترط عدم مشاركتها في الجهاد والتدريب العسكري.

غير أن السادات لم يستطع أن يلعب بالبيضة والحجر طويلا، فبعد أن مكنهم كثيرا من أجهزة الاعلام والصحافة وسهّل تحركاتهم ظهرت المفارقة بينه وبينهم اثر انتهاجه لسياسات «الاقتصاد المفتوح» الذي اضر بالقواعد الشعبية الفقيرة التي يرتكز عليها الاسلاميون في احياء القاهرة بأكثر من صعيد. ثم ما اعتبره الاسلاميون كارثة كبرى لدى توقيعه اتفاق كامب ديفيد في 17 سبتمبر/ايلول العام 1978 وكذلك زيارته لاسرائيل. و«بدأ بعضهم مواجهة استباقية ضد السادات بمحاولة «منظمة التحرير الاسلامي» السيطرة على الكلية الفنية العسكرية في ابريل/ نيسان 1974 كما اغتالت «جماعة التكفير والهجرة» وزير الأوقاف الشيخ الذهبي العام 1977 وصعدت مواجهاتها للنظام في جامعة أسيوط في العام 1980.

وجد السادات أن دور الاسلاميين في مصر وفي افغانستان تجاوز الخطوط الحمر التي رسمها كترياق مضاد للناصرين واليساريين، فاصدر أوامره بتصفيتهم وملاحقتهم في سبتمبر 1980 ولكنهم لم يمهلوه لأبعد من 6 اكتوبر/ تشرين الأول 1981 مين خرّ صريعا في منصة الاحتفال.

مع كل ذلك استمر الضخ المالي والتعبوي في إطار الوفاق بين الأنظمة والاسلاميين طوال ما تبقى من الثمانينات ومطلع التسعينات وكانت الخطوة الأولى لانقلاب الاسلاميين في السودان ومصارفهم ومؤسساتهم المالية وجمعياتهم «الاغاثية والخيرية» وتنمية من أسسوه أثناء تحالفهم مع نميري واصدارهم لشريعته باسم القوانين الاسلامية في 8 سبتمبر 1983 وإلى ما بعد انقلابهم في 29 يونيو 1989، وعلى رغم المواقف الرسمية التي صنفت السودان خليجياَ في قائمة «دول الضد» بعد موقفه من غزو العراق للكويت في 2 اغسطس/آب 1990 وهو موقف منسجم في «سلبيته» ضمن أحسن العروض - مع مواقف الحركات والتيارات الاسلامية - كافة ما عدا (إخوان الكويت).

واستمر الضخ حتى بعد الانسحاب السوفياتي من افغانستان باتجاه «طالبان» التي بدأ ظهورها في قندهار بداية من مارس /آذار 1995 بعد عام من تأسيسها، ثم بموجب ذلك الضخ والدعم الباكستاني استولت على العاصمة كابول في 27 سبتمبر 1996. وقبل ذلك بأربعة اشهر فقط تم التحالف في مايو 1996. بين «طالبان» واسامة بن لادن بعد أن قضى أربع سنوات في السودان في الفترة ما بين منتصف 1992 وإلى مايو 1996. وله هناك قصة أخرى كانت باعثا على اعلان الجهاد ضد إريتريا بتاريخ 16 ديسمبر كانون الأول وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين بتاريخ 5 ديسمبر 1994. ومحاولة اغتيال حسني مبارك في أديس أبابا في 26 يونيو 1995 وإنشاء التنظيم الاسلامي الأصولي في الصومال عام 1993 وتدريب عناصر مصرية في السودان وتهريب الأسلحة لمصر، غير الاتهام لعناصره بالتدمير الجزئي لمبنى مركز التجارة العالمي في نيويورك بتاريخ 26 فبراير 1993.

وكثمرة لهذا التحالف بين بن لادن و «طالبان» تم تأسيس «الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى» في فبراير 1998، ثم إقدام الجبهة على تفجير سفارتي أميركا في كينيا (نيروبي) وتنزانيا (دار السلام) في 7 اغسطس 1998 والتدمير الجزئي للمدمرة الأميركية «كول» في اليمن بتاريخ 12 اكتوبر 1998.

واستمر الضخ باتجاه الشيشان وكذلك باتجاه البوسنة والهرسك». مليارات من الدولارات غير ما انفق على الكتب والموضوعات والبرامج التلفزيونية ورحلات «المهمات» وصفقات «التسليح» و «التموين» و«الأجهزة الطبية» ومنها «مستشفيات نقالة». ثم بدأت الحركات الاسلامية في استنهاض قواها مجددا في السعودية متماهية مع المنعكسات السلبية بمن فيها وجود القوات الأميركية في أراضي المملكة بعد حرب تحرير الكويت يناير 1991 فوقع جمع من الاسلاميين بمن فيهم علماء وفقهاء عريضة تطالب باعادة صوغ نظم الدولة السعودية وهياكلها على نحو «ثيوقراطي» وتحجيم قوى التحديث واخضاع المجتمع لرقابة وجيزة من تحرير الكويت. ورد المثقفون التحديثيون بمذكرة مضادة من عدة نقاط طالبوا فيها «بتفسير مرن» للشريعة الاسلامية، ثم أصدرت هيئة كبار العلماء بيانها المضاد لمذكرة النصيحة في 30 ديسمبر 1991، ولم يحمل البيان أية ادانة منهجية لمطالب المذكرة بل مجرد تنبيه لهم بالحيدة عن اصول «النصيحة الشرعية» بمعنى اتفاق هيئة كبار العلماء مع موقعي المذكرة على المضمون مع الاختلاف فقط في «الاسلوب». ثم رد موقعو المذكرة على بيان «هيئة العلماء» بتاريخ 17 سبتمبر 1992 بأن ما بينهما من «خلاف شكلي» لا يؤثر في مضمون التوجه كما قللوا من شأن الاصلاحات الدستورية التي اصدرتها الحكومة السعودية في مراسيم ثلاثة بتاريخ مارس 1992 التي اعادت صوغ «مجلس الشورى» و«نظام المناطق» والنظام الأساسي للحكم» (27 شعبان 1412 هـ).

تحت وطأة هذا الصعود «الأصولي» والمطالبة بالدولة «الثيوقراطية» وفق مضامين مذكرة «النصيحة» التي لم تجد سوى نقد شكلي من هيئة العلماء الرسميين بما يعني «وحدة الرؤية السلفية» طرح وزير الداخلية الأمير نايف بن عبدالعزيز «أولويات الأمن الفكري» في ديسمبر 1996 مؤكدا على دور المؤسسات الثقافية والتربوية والاعلامية، لتطويق «الخطر الأصولي».

غير أنه وفي مؤازرة وبالتزامن مع أقوال الأمير نايف هذه، استمر الضخ المالي والدعوي لطالبان «في افغانستان حتى وصلت كابول في 27 سبتمبر 1996 ثم تكوين بن لادن لتنظيم القاعدة و«الجبهة الاسلامية العالمية لقتال اليهود والنصارى» في 28 فبراير 1998 ثم تفجيرات برجي التجارة العالمية ومبنى البنتاغون في 11 سبتمبر 2001 واعتراف بن لادن بمسئولية تنظيمه بطريقة غير مباشرة عبر شريط مسجل بثته قناة الجزيرة بتاريخ 27 ديسمبر 2001. ثم عاد الأمير نايف مجددا ليدين في حديثه الصحافي لـ «السياسة» الكويتية بتاريخ 26 نوفمبر 2002 الحركة الأصولية التي خرجت من عباءة الاخوان المسلمين، فيما تتواصل ضغوط أميركا لفك الارتباط (منهجيا) مع حلف ديني سياسي.

فهل يكون الحل لدى «ابن رشد» و«ابن خلدون»؟

العدد 134 - الجمعة 17 يناير 2003م الموافق 14 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً