بغداد أسماها أبوجعفر المنصور مدينة السلام عندما بناها لتصبح أكبر مدينة في ذلك الزمان، عامرة بالعلماء والتجار والناس من كل مكان، وأصبحت مركزا لأعظم قوة في تلك الفترة من الدولة العباسية قبل 1200 سنة. ومدينة السلام كانت منشغلة بنفسها قبل 750 سنة وكانت تتوقع هجوما من الغرب استمرارا للحملات الأوروبية (الافرنجية) آنذاك. وبينما هي في انشغال بنفسها، وبينما هي تتوقع هجوما من الافرنج وإذا بالهجوم عليها يأتي من الشرق، من المغول آنذاك، ليمسحوها بالارض ويحرقوا معالم حضارتها ويحولوها من أعظم مدينة في ذلك الزمان إلى مدينة أشباح...
غير أننا وبعد سبعة قرون ونصف القرن نشهد هجوما آخر على بغداد. هذا الهجوم سيكون على طريقة لعبة «البولو». عندما هجم المغول على بغداد كانوا همجا ورعاة أغنام، يركبون الخيول وأجسامهم أضخم وأكبر وأقوى من الأجسام الأخرى. دخلوا بغداد بعد اجتيازهم الأراضي الإيرانية وكانوا كلما مروا على مدينة أو قرية مسحوها بالأرض وجمعوا جماجم رجالها، على تلة يصنعونها من الجماجم. وقيل إن القائد المغولي دخل احدى المدن الإيرانية فلم يكن فيها أحد بعد هروب أهلها لسماعهم بمجيء المغول فما كان منه إلا أن أمر بجمع جماجم القطط والكلاب والحيوانات الأخرى لكي لا تنكسر سنة الغزو التي سنوها. أما عن مسح الأراضي فقد قال أحد قادة المغول إن أمهات المغول ولدنهم ولم يكن فوق رؤوسهم سقف وانهم عاشوا في العراء، ولذلك فإن الآخرين يلزمهم أن يعيشوا في العراء أيضا.
هجم المغول على بغداد وهم همج ودمروا بغداد إلا أنهم سرعان ما تأثروا بثقافة المسلمين وتحولوا إلى الدين الإسلامي، وأصبحت ثقافة «بغداد المنهزمة» هي السائدة حتى على الذين غزوها. أما في عصرنا الحالي فالوضع يختلف. فالأميركان عكس المغول إذ أنهم يمتلكون أسلحة دمار شاملة ترسل من الجو ومن البحر وتمر على جميع الأجواء من دون أن يتمكن أحد من اعتراضها... وهذه التكنولوجيا المتطورة لن تكلف الأميركان كثيرا وكل ما عليهم هو الجلوس خلف الكمبيوترات الموصلة بأجهزة الرصد والقيادة والتحكم والتوجيه، وهذه الكمبيوترات توجد في أميركا وفي الخليج (برا وبحرا) وفي تركيا وأسبانيا وفي داييجو غارسيا...
والأميركان ليسوا شعبا من دون ثقافة، وانما لديهم أهم صناعة تنشر الثقافة التي يريدونها وهي صناعة السينما التي تتقدم الآخرين بعقود ان لم يكن بقرون في الزمان...
عندما يهجم الأميركان على بغداد لن يكون هدفهم إفقاد العراق قدرته على حيازة أسلحة الدمار الشامل، فهذا الأمر تأكدوا منه، ولكن سيكون هدفهم إعادة صوغ الشرق الأوسط بحيث يتحول إلى نفوذ شركات أميركية. وإذا كانت بريطانيا وفرنسا قد وزعتا الشرق الأوسط إلى دول مقسمة بصورة اعتباطية وانتدبوا أنفسهم للحكم أو السيطرة على مقدرات تلك البلدان، فإن أميركا ستوزع العراق والشرق الأوسط بين شركات النفط وشركات السلاح والشركات الأميركية الأخرى.
وسيكون من الأفضل لنا أن نرسل سفراءنا للقاء ممثلي الشركات الأميركية الكبرى عندما تعقد تلك الشركات مؤتمرا للنقاش والحوار فيما بينها، ولن تكون هناك حاجة لأمم متحدة ولا لجامعة عربية أو منظمة إفريقية أو غير إفريقية...
هذه الصورة القاتمة للسياسة التي تنتظرنا ربما تكون الصورة الأقل تشاؤما، إذ لا نعرف ماذا سيحصل لنا، وما هو الدمار الذي سيحل علينا، وأي نمو اقتصادي سيكون من حظنا، وأي أنواع من أمراض سرطانية ستنتشر بيننا، بعد أن يرسلوا عشرات الآلاف من قذائفهم إلى بغداد وما حول بغداد.ونحن نعيش حول بغداد، وبغداد ليست للعراقيين فقط فهي لكل العرب والمسلمين، وضربها من دون رحمة لن يكون لمعاقبة القيادة العراقية فقط وانما أيضا لمعاقبة أمة وحضارة.
سواء كنا قد جلبنا لأنفسنا هذا البلاء لعدم إقامة أنظمة عادلة في بلداننا أم لأننا مستهدفون حتى لو كانت أنظمتنا عادلة، فالمسألة الآن تتعدى هذه الحسابات. والمشكلة أننا جميعا جالسون ننتظر الضربة من دون الاستعداد لتبعات تلك الضربة ومن دون حماية أنفسنا من بعض ما سيتساقط على شعبنا في العراق. فهل آن الاوان لوضع خطة ما لحفظ ماء الوجه؟
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 134 - الجمعة 17 يناير 2003م الموافق 14 ذي القعدة 1423هـ