لابد أن أغمس إصبعي في الجرح لأن قلبي مع المملكة، ومع ما حققناه من انجازات، ولأني أخاف كثيرا على هذا الاستقرار السياسي الذي حققناه خلال هذين العامين، ودفعنا فيه كل ما نملك من مال، ووقت وجهد وعمر أيضا واستطعنا على رغم بعض المنغصات أن نثبت للخليج وللعالم العربي وللعالم أن البحرين بإمكانها أن تنجح بلا معتقلات سياسية وبأن وحدتها الوطنية أكبر بكثير من خلافات تاريخية مؤدلجة وان بإمكاننا أن نتعايش على القواسم المشتركة بلا استفزازات سياسية من دون أن يحشر كل منا الآخر في الزاوية الضيقة.
لكننا على رغم كل ذلك رحنا نكابر أمام أخطائنا وكل منا يدعي احتكار الحقيقة، وها نحن نسير ولا نعلم ماذا يخفي لنا المستقبل.
ولأني لا أؤمن بسياسة النعامة في إخفاء الرأس في التراب أقول - وبكل صدق - لا يمكن أن نمر على تلك التصريحات المشحونة بلغة الاتهام والتأزم مرور الكرام وخصوصا أن لغتها واضحة، واشاراتها لا تحتاج إلى ذكاء لبيب، نعم هي انطفأت أو كادت ولكن كل هذا النفخ المفتعل وتلك التفسيرات المكتنزة بلغة الاتهام تنبئ وتعطي اشارة مربكة لو انفلتت على ما تحمل واستسلمت لانفعالها لربما سقط الجنين وهو في طور التكامل.
على رغم كل ما قيل من ضجيج وما طرح من غيرة مصطنعة على لسان بعض المثقفين والصحافيين وغيرهم لا يخفى حجم الخطر المخيف الذي اقترب من «سفينتنا الاصلاحية» وهذا ما كنت متوجسا من اقترابه منذ تلك اللحظات الأولى من ذلك الجدل اليومي لقبل مرحلة الانتخابات. كان قلبي على المستقبل وهل بالامكان ألا يضيق صدر السلطة أو أن تقبل المعارضة النقد، وقلتها في نهاية المطاف، الفقراء هم الذين سيكونون الضحية. لا يهمني الجدل الدائر بقدر ما يهمني بقاء العلاقة والتعود خطوة خطوة ولو بالدفع في سبيل تعلم الديمقراطية، ولم أكن انظر إليها بتلك الطريقة الهندسية في التعاطي لأننا للتوِّ قد خرجنا من دوامة سياسية حبلى بالأوجاع نحتاج إلى الخروج فقط من تداعياتها سنين وسنين كي نؤهل أنفسنا اقتصاديا وعلميا وأخلاقيا، وكان يؤرقنا الخوف من عودة تلك السيناريوهات الماضية المفزعة من توزيع التهم على ضحايا هنا وضحايا هناك لذلك كله آثرت أن أشارك في التصويت على الميثاق والمشاركة - مع احترامي لكل وجهات النظر - في الانتخابات البلدية والبرلمانية أيضا وذهبت وصوّت محترما في ذلك كل الآراء، ولكني أيضا لا يمكن أن ألغي قناعتي في ذلك وقد يكون اجتهادي خطأ سياسيا وغيري هو الصواب وقد يكون العكس هو الصحيح، ولكني أؤمن أن لكل انسان اجتهاده مادام في كل ذلك يحكم رضا الله وراحة الضمير وحب المجتمع والوطن. ولا أخفي ان السر الأكبر ورا ء خطوتي هذه هو خوفي وتوجسي من تلبد الغيوم السياسية مرة أخرى فندخل في دوامات وأنفاق أخرى خصوصا مع تيقن الجميع بأن هناك من المتنفذين من الدرجة الثالثة والرابعة من لازال يعيش بعقلية الماضي وهم حاضرون لاصطياد أية فتنة يذهب ضحيتها الفقراء من هذا المجتمع غير عابئين باهتزاز هذا المشروع الاصلاحي الذي سيحتاج إلى رعاية دائمة على رغم المثبطات التي تعتري الطريق وقد لوحظ ذلك في حجم الكلمات التي أطلقت على عواهنها.
لذلك أطرح سؤالا واقعيا صريحا؟ من يضمن في كل مرة ان تسلم الجرة، فما حدث في شارع المعارض حادث صبياني لا يكاد يختلف عليه اثنان وإذا به في لحظات يجيّر تحت عناوين عريضة وكأنه حادث يفوق ما وقع في 11 سبتمبر/أيلول في واشنطن ونيويورك، هكذا وبطريقة هذيانه كادت أن تحرق كل تلك الانجازات، وأنت تلحظ كيف تساق «الأدلة» وتطلق على عواهنها... ويكون - ويالسخرية القدر والمقابلة - أن الدليل «المادي» و«الكبير» ان «اناسا جاءوا بطريقة مفاجئة من كل النوافذ وفعلوا ما «أرادوا ثم هربوا»... هكذا وكأنهم يدخلون وكالة من غير بواب على رغم العشرات من قوات الأمن التي كانت تحرس كما أن الاتهامات تطلق هكذا، أين الأمن، أين الكاميرات، أين المتفرجون؟
أين كل ذلك من هؤلاء الذي قيل عنهم؟! إن مثل هذه المقابلات الصحافية تستخف بعقول الناس. إن مثل هذه المقابلات الصحافية «تستحمر» البشر وتضحك العالم علينا وعلى المستوى الذي وصلت إليه عبقرية أمثال هؤلاء المثقفين! وهذا الهوس الجنوني المريب يومئ إلى أننا أمام سابقة خطيرة وأمام وضع لا نحسد عليه إن استسلمنا لاطماعنا الشخصية والتآمرية، واننا بذلك قد ندخل واقعنا السياسي في نفقٍ مظلم لا يتمناه أي شريف ووطني مخلص لهذا الوطن. فمن الحرام أن نلغي هذه الحرية وهذه الديمقراطية الوليدة بسياسة افتعال الأزمات. وتركيب حادثة صبيانية وتلبيسها بلباسٍ سياسي أمني ونكون بذلك كمن يحاول أن يلبس فيلا كبيرا «شورت» طفل رضيع أو حفاظة «بامبرز».
نحن الآن أمام مرأى العالم وتجربتنا ينظر إليها الصغير والكبير، واستطعنا أن نكسب احترام المنظمات الدولية والحقوقية، وراح الكل يفتخر بديمقراطية البحرين على نواقصها وراح المثقفون يكتبون عن المشروع الاصلاحي وعن مدى رحابة وأفق جلالة الملك وكيف استطاع أن ينقل البلاد إلى مواقع متقدمة. ففي عهده خلت السجون من السجناء السياسيين، وفي عهده أقبر قانون أمن الدولة وأوصدت محكمة أمن الدولة، ولأول مرة في تاريخ البحرين يعود جميع المبعدين والمهاجرين إلى الوطن، وتكون هناك شفافية في الطرح وأرضية لتأسيس مؤسسات المجتمع المدني وتصبح البحرين مكانا رحبا لاستقبال المفكرين وبعد كل ذلك تبدأ عملية تأهيل المواطن. نحن يجب أن نعترف بأن هناك انجازات ومكتسبات يجب أن نحافظ عليها وأن نسهم في دعم مشروع الملك، فهو الذي قال: أنا بحاجة إلى دعم الجميع، لهذا نحن باعتبارنا مثقفين وعلماء سنعمل على دعم المشروع بما يصب في خدمة هذا الوطن، خصوصا ونحن نلحظ اقتراب نشوب حرب في المنطقة العربية وفي الخليج تحديدا، فجلالة الملك بحاجة في ظل هذه الظروف إلى تماسك الوحدة الوطنية وإلى دعمٍ على جميع المستويات في سبيل خروج المملكة بموقف سياسي وطني موحد من كل الجمعيات والمؤسسات المدنية وكل الواجهات الثقافية والرموز الدينية والوطنية أمام ما سيقع من حرب محتملة على العراق.
لهذا نقول دائما - بلا مجاملة وبلا شعارات - نحن قَلْبنا على هذا المشروع وعلى هذا الوطن وعلى هؤلاء الناس الطيبين من شعب البحرين وكل أملنا أن تبقى العلاقة بين الرموز السياسية والسلطة دائما في اتصال وتواصل، وأن نركز على القواسم المشتركة وأن نبدأها بما نتفق عليه وأن نؤجل ما نختلف فيه، فما دمنا نلتقي على هم البطالة والفقر وأزمة السكن. فلنبدأ بذلك ولنؤهل الناس اقتصاديا أولا وثقافيا واجتماعيا بتقوية الأمن المجتمعي ومن ثم إذا استقر الوضع وبدأت الحياة تستقر وبدأت طريقها في تعلم الهدوء والاستقرار يبدأ التفاوض في القضايا الأخرى. أقول ذلك لأني متوجس من مدى قدرة ضبط الايقاعات، ففي كلا الطرفين - هناك درجة من التأزم - في السلطة والمعارضة، في وقت نحن بحاجة إلى فترة من الوقت لاستقرار النفوس ولتعمق الثقة حتى نتجنب الوقوع في أية اشكالية مستقبلية. وهنا أدعو - وبكل صدق - أن يأخذ العقلاء والمتوازنون دورهم، وألا يبخل الجميع في اخماد أية فتنة وفي اسكات أي صوت يرتفع يهدد وحدتنا الوطنية وفي نقد أي خطأ من أين كان، بل وامتلاك الشجاعة لتوقيف أية بادرة قد تستغل أو تفعل لإرباك الوضع أو تجير وتلوى عنقها لتوجيهه بطريقة تجارية عنصرية. فالسلطة بحاجة إلى إزالة وتخفيف الاحباطات التي تحدث عبر بعض الممارسات من سن قوانين مربكة وغيرها والمعارضة أو جزء - من المعارضة - بحاجة إلى ضبط ايقاع الخطاب والتزامه بعدم الخروج عن ايقاع الاتزان الموضوعي الذي يعيشه كبار الرموز الإسلامية والوطنية والعمل والتنسيق لاستيعاب أية مشكلة مقبلة، مع الالتزام قدر الامكان بتوازن الخطاب وضبط كلماته سواء عند السلطة أو المعارضة لهذا أقول وبكل صراحة: ان تلك المقابلات غير المسئولة لبعض الوزراء كانت غير موفقة بتاتا وهي لا تصب في مصلحة أحد أبدا وهي تؤسس لثقافة مربكة أصبحت في متحف التاريخ لا يتمنى أي وطني مؤمن بهذا الوطن عودتها. لهذا مازلت أقول وبكل اصرار: اننا بحاجة إلى شخصيات ثقافية عملية متوازنة لتلعب دورا في حفظ توازن العلاقة بين السلطة والمعارضة، تعمل ليل نهار في سبيل تقريب وجهات النظر وتدفع شبح أية فتنة يحتمل وقوعها. وآن لمن يريد خيرا لهذا البلد أن يخطف مبادرة ترطيب الأجواء وترسيخ مبادئ الحوار وتقريب وجهات النظر «لا صب الزيت على النار» بلا مسئولية فذلك لن يخدم أحدا.
ونحن نعيش في سفينة واحدة وأنا مؤمن بأن هناك أعدادا هائلة من الشخصيات المتوازنة غير المأزومة في كل الأطراف ولكنها مازالت جالسة في مقاعد المتفرجين إما من احباطات معيشية أو تشاؤم سياسي أو نتيجة انها قمعت في فترات مختلفة أو آثرت السكون مخافة السلطات أو الجماهير ولكن كل ذلك لا يبرر سكوتها أو عدم نقدها لأي أداء لا يخدم الوطن فهي ان سكتت فهناك ألف رأس شيطان، صحافي، مدير... يعمل ليل نهار لإلقاء العصي أمام عجلة التعايش والوئام بين السلطة والمعارضة فلكي تفوت عليهم الفرصة يجب أن يأخذ هؤلاء المتوازنون دورهم في رأب أي صدع وفتح أو تعميق أية علاقة وفي اخماد أي تأزم، ويجب أن نؤمن بأن الديمقراطية لا يمكن أن تأتي كاملة دفعة واحدة، فلقد تعثرت ما يربو على 400 سنة حتى وصل الغرب إلى ما وصل إليه، لقد دخلوا في حروب عالمية وذبحوا أبناءهم وقتلوا الملايين من البشر حتى وصلوا إلى جزء من الديمقراطية، لهذا ينبغي ان نعمل بسياسة «الخطوة خطوة» ونظرية التصحيح من الداخل والديمقراطية - حقيقة - ممارسة وأداء على الأرض وهذا ما ركز عليه الكثير من المفكرين الوطنيين المتوازنين، لهذا يجب أن ننبذ انشائية الخطاب وبساطة الأداء وضعف الممارسة. ولقد اثبتت المعارضة البحرينية بمواقفها الحضارية والسلمية، قدرتها على ضبط قواعدها وامتلاكها الخطاب المتوازن والعقلاني غير الانفعالي على الأقل في الداخل، فخطابها في الداخل يمتاز بالدقة وخصوصا في اختيار الألفاظ وفي توصيف الوضع ووضع المسميات، لهذا نالت قبول المتوازنين في البلاد والشيخ علي سلمان بحاجة إلى دعم في ثقافته المتوازنة ولو أن الناس أخذوا بما نصح به سابقا لأصبح حالنا - على علاّته ومنغصاته - أفضل مما نحن عليه ولما استطاع أحد أن يتجرأ على فئة تمثل نصف المجتمع ولما شاهدنا سيناريوهات مرعبة تركب على الفقراء نتمنى أن يقينا الله شرها وعدم استنساخها مستقبلا وخصوصا بعد أن أصبحت عارية أمام الملأ بلا ثياب. أنا أعلم أن كلامي سيرضي أناسا وسيغضب آخرين ولكني أخذت على نفسي أن أكون صريحا مع ذاتي ومع الناس وأجد أن معنى الانسجام مع النفس أن تصارح بما في قلبك لهذا أحب أن أكون واضحا ولست ملزما أن أكون مفصلا عبر قناعة هنا أو هناك أو تحت ضغط هنا أو هناك.
وليسمح لي الجميع إن قمت بنقد أي موقف - أزعم انه خاطئ - في واقعنا السياسي سواء من أداء السلطة أو المعارضة واختلاف الرأي السياسي في القضايا السياسية لا يفسد للود قضية، وان ألفباء الديمقراطية ان نسمع الرأي الآخر من دون أن نقمعه وإلا أصبحنا - جميعا - كمن يرفض دكتاتورية هو يمارسها.
أقول كلامي هذا خوفا من المستقبل وحرصا على الوحدة الوطنية وعلى ما حققناه، فهنا ينبغي للجميع الحذر في حفظ ايقاع كل شيء وفي مراعاة الواقع السياسي في تراتبية الأولويات الوطنية على أن تقدم القضايا المشتركة وبكل دقة وحنكة سياسية وواقعية من دون إلقائها كلها في حزمة واحدة وفي وقت واحد فيعسر هضمها ويبقى أن طريقة التعاطي مع أي ملف في تناوله - خطابيا ووقتيا وأدائيا ومكانيا - لها دور كبير في انجاحه كما وندعو بعض المتنفذين من وزراء وغيرهم إلى أن يكونوا حذرين في تناول أية مشكلة فـ «الطرزانية» في التصريح قد تنجح في التجارة والإعلانات، لكنها ليست بالضرورة ناجحة في السياسة
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 133 - الخميس 16 يناير 2003م الموافق 13 ذي القعدة 1423هـ