العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ

كيف ينظر داعية التنوير إلى أزمة التخلف الحضاري العربي؟

مع أن مفهوم المثقف أشمل، إلا أن المتتبع لبعض المشروعات الفكرية الراهنة، يتلمس أكثر من دعوة مضمرة بإعلان موت المثقف، فالمثقف العربي منتج كبير للأوهام (علي حرب، أوهام النخبة، 1998) ونرجسي كبير لا يرى إلا صورته (فهمي جدعان، الطريق إلى المستقبل، 1999) ومقطوع الصلة بسلفه في التاريخ والذي كثيرا ما لعب دور البطل كما يرى محمد أركون في قراءته لسيرة أبي حيان التوحيدي، وكما يرى محمد عابد الجابري في قراءته لدور المثقف المسلم في التاريخ (ابن حنبل نموذجا)، والمثقف نخبوي كما يرى حسن حنفي وبرهان غليون في مجتمع النخبة، 1986» وكذلك وليد نويهض في «النخبة ضد الأهل، 1994». وهذا غيض من فيض الدراسات التي طالت المثقف العربي والمضمرة بالدعوة إلى إعلان موته وانبعاثه بأن من رماده بهيئة المفكر المتخلص من الأوهام والأجدر على طرح الأمور وعلى تفاؤل الإشكالات الحقيقية، والمتطلع أبدا إلى التنوير كفعل وممارسة، التنوير الذي يتوسل «البراغماتية الجديدة» كطريق للوصول إلى أهدافه، أو على الأقل بشيء من البراغماتية التي يجرى التنظير لها تحت راية «ما الجدوى من ذلك» و«ما الجدوى من المثقف» التي تستعير معظم بواعث التعبير عن نفسها من الثقافة الفرنسية الحديثة التي راحت تتساءل عن جدوى المثقف، والتي تطالب - أي البراغماتية الجديدة - المشرعين المفكرين بأن يكونوا مثل الاقتصاديين في بحثهم عن الجدوى والفائدة.

وفي الحقيقة فإن المفكر التنويري الذي يتوسل في خطابه البراغماتية كما يفعل فهمي جدعان في الكتاب الذي جئنا على ذكره، وهو نفسه مع آخرين هم من أهل التنوير الذين بدأوا يتساءلون عن جدوى المشروعات الفكرية منذ عصر النهضة وحتى الآن. إنه يلتفت إلى الوراء فيرى الحصاد هشيما، فما تحقق جاء على غير ما كان ينشده رواد النهضة العربية، فقد أراد الأفغاني أن يوحد بلاد الإسلام لمواجهة الضغط الأوروبي المتعاظم فانهارت الدولة العظمى وترامت أشلاؤها، وهتف محمد عبده بالتجديد فساد التقليد، وحثّ إسماعيل مظهر ودعاة «الفكر الحر» على تحرير العقول من الأوهام والخرافات والأفكار السابقة وعلى فتح الأذهان والنفوس أمام كل جديد فتعلقت كل التيارات وكل الأحزاب بوثوقية مدمرة. وفي كل الأحوال تعددت الأسباب والموت واحد كما يرى التنويري العربي المسكون دائما بنبرة تشاؤم.

أعود للقول إن المفكر التنويري الذي يتوسل البراغماتية ومفهوم الجدوى الذي يظهر كنتيجة لذلك. يقول بالتبشير ويدعو إلي القطيعة، فهو يبشرنا بالتنوير كفعل فكري يقوم به المفكرون فمن شأنه أن يقطع مع نرجسية المثقفين ليدشن عهدا جديدا، وهذا ما يقول فهمي جدعان المسكون بروح التشاؤم والذي يشكك بجدوى الكثير من المشروعات. يقول: أنا أعتقد أن المهمة القصوى للمفكر الحقيقي، «هنا.. الآن»، لا يمكن أن تكون شيئا آخر غير «التنوير» نفسه، لا بما هو كشوف معرفية خالصة ولكن بما هو «أفكار - قوى» تنير عقولنا وتوجه أفعالنا» ويضيف في مكان آخر «أنا أعترف بأن فكرة «المصلحة» وفكرة «الجدوى» تحتلان مكانة أصلية في ما اختار أو أقترح أو أقدر. وقد يكون في ذلك قدر غير يسير من البراغماتية المشخصة».

يفاجئنا المفكر التنويري المشغول بهواجس الجدوى على حد تعبيره والذي يُغلِّب مرجعية الفعل على مرجعية النظر (الطريق إلى المستقبل، ص47) أقول يفاجئنا بالدعوة إلى تجاوز العقلانية باعتبارها الحلقة الأضعف في تكوين الإنسان الإنتروبولوجي واحلال العقلانية المشخصة مكانها والتي سرعان ما تعبر عن نفسها من خلال الدعوة إلى تجاوز مجموع التفسيرات الساذجة كما يصفها جدعان لإخفاقاتنا المتكررة وكذلك مجموع الرؤى الأساسية التي تنطحت لتفسير إخفاقاتنا والتي يجملها جدعان بثلاث رؤى. الرؤية الأولى إنتروبولوجية وتمتد من الجاحظ إلى ابن خلدون إلى رؤوس الاستشراق الجديد والتي تركز على خصائص ثابتة عند العربي لا يمكن تجاوزها، أما الرؤية الثانية فهي تاريخية وتحاول أن تعثر على سر التخلف في الموروث الجمعي (القبلي والعشائري وغياب مفهوم الدولة والفردانية المدمرة) أما الرؤية الثالثة التي يدعونا جدعان إلى تجاوزها فهي التي لا تدرك من علة للإخفاق وامتناع التقدم بالأحوال والأوضاع إلا علة «فعل الغير» المضاد، المعاند، المدمر، وبكلمة المتآمر. ويضيف جدعان بقوله «فإخفاق حركات التحرر الوطني في العالم العربي بوجه خاص لم يأتِ، وفقا لهذه الرؤية، من سوء تدبير هذه الحركات نفسها أو من جهلها بطرائق العمل المجدية أو غير ذلك من أسباب كامنة في طبيعة هذه الحركات ومسالكها، ولكنه أتى من مشروعات التآمر والسيطرة والحصار الخارجية، وبصورة خاصة تلك التي يمارسها منذ زمن بعيد الغرب».

ما يفاجئنا إلى حدود الدهشة أن فهمي جدعان يرفض كليا فكرة أو «نظرية المؤامرة» التي تقول بالدور التخريبي الذي لعبه الغرب في المنطقة العربية، لا بل هو يسخر من نظرية المؤآمرة شكلا ومضمونا، فلا الغرب ولا ربيبته إسرائيل لهما دور في تخلفنا الحضاري، وما الهولوكوست العربي الذي نشأ في السياق الذي ولَّدته خيارات شمشون والقاذفات العملاقة إلا وهما من أوهام الحركات التحررية العربية، وعلينا أن نوجه الأنظار إلى ما يسميه جدعان بالواقع المشخص الذي هو من ضعنا نحن لا من صنع الغرب؟

على رغم أنني لا أشارك البعض في تضخيم ما سمّاها خلدون حسن النقيب بـ «العقلية التآمرية» التي تتمفصل مع «فقه التخلف» ولا أرى أن أزمة التخلف الحضاري العربي هي ناتج أزمة «هوية» وهنا أشارك جدعان في رأيه، إلا أنني لا أشارك جدعان وجهة نظره في تبرئة الغرب فهذه نظرة سطحية يشتكي منها جدعان ويعيبها على المثقفين العرب ولكنه يقع في حبائلها. فأزمة التخلف الحضاري والتي هي أزمة حقيقية هي ناتج قوانين التوسع الرأسمالي الغربي على صعيد عالمي وتحويل بعض مناطق الأطراف في هذا الإطار إلى مناطق مهمشة - عالم رابع على حد تعبير سمير أمين - لا دور لها في المستقبل المنظور، فالتخلف العربي لا يرتد إلى عوامل ثقافية بحتة وثابتة ولا إلى ما يسميها جدعان بالواقع المشخص، بل يمكن رده بحق إلى قوانين التوسع الرأسمالي بصورته الوحشية والتدميرية والتي لا يراها جدعان، وهذا من شأنه أن يحررنا من هاجس الأسئلة المزيفة التي تعزي تخلفنا مرة إلى ثبات الإسلام، كما تفعل أجهزة لإعلام الغربية هذه الأيام، ومرة إلى سمات خاصة بالشخصانية العربية كما يفعل جدعان.

إن جدعان يتكر تماما للدور التخريبي للرأسمالية في العالم العربي ولا يراه ولا يلمح اثره على صعيد عالمي من أميركا اللاتينية إلى اسيا وإفريقيا. إنه يرتد على الذات العربية ليجلدها كما تفعل مناهج التحليل النفسي العربية التي تتكاثر هنا وهناك كأن التنوير كفعل فكري لا يقوم إلا على جلد الذات؟

العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً