خاضت الحركة العمالية والنسائية - من دون الرجوع الى المراحل التاريخية لما قبل التصويت على ميثاق العمل الوطني - جملة من النضالات من أجل تحقيق هدفها المتمثل في وجود نقابات عمالية حرة ومستقلة، وهي مراحل مهمة تقع على عاتق الحركة النقابية البحرينية الراهنة توثيقها وتأريخها وإبرازها كمحطات نضالية تراكمية خلقت هذا التحول النوعي الجديد الذي تم اعلانه في 24 سبتمبر/أيلول أثناء لقاء جلالة الملك مع القيادات والكوادر النقابية للاتحاد العام لعمال البحرين، وهو تتويج لتراكم تاريخي نضالي أثمر هذا الانتصار وفي ظل وجود إرادة إنسانية أيضا والمتمثلة في دور (الملك) الذي قرأ الواقع العمالي قراءة حصيفة ورصينة استوعبت متطلبات وضرورات استقرار علاقات العمل بوجود توازن مؤسساتي بين العمال وأصحاب العمل واستوعبت أيضا ضغوط المنظمات العمالية الدولية وضرورة البدء في احترام الاتفاقات الدولية ذات العلاقة بحق التنظيم النقابي والمفاوضة الجماعية والصادرة عن منظمة العمل الدولية وعدم مواصلة سياسة الكر والفر والتأجيل والمراوغة التي كانت مستمرة إبان عهد قانون أمن الدولة تجاه المنظمات الدولية ومعاييرها واتفاقاتها، نقول بعيدا عن هذا التاريخ.
مارست اللجنة العامة لعمال البحرين عبر كوادرها النقابية التي راكمت تجربة نضالية ولم تبتعد عن هموم ومطالب الطبقة العاملة البحرينية بل واصلت في الدفاع عنها في عهد قانون أمن الدولة وأصرت وهي داخل هذا التنظيم العمالي غير النقابي بحسب المعايير الدولية والعربية بعدم الاعتراف به بوصفه نقابة مادام لا تنطبق عليه شروط ومواصفات النقابة العمالية، وخصوصا معايير الاستقلالية وحق إنشاء النقابة من دون موافقة رسمية وأن تكون حرة وقوية وغير ذلك من المقاييس المعروفة دوليا بشأن النقابات العمالية.
لقد مارست هذه المؤسسة العمالية التي تُعد من مؤسسات المجتمع المدني والأهلي في بلادنا ذات المنهجية الجدلية التي تكلمنا عنها في القسم النظري من مقالنا هذا، إذ استخدمت سياسة فن النتيجة وبادرت في إعداد مشروع قانون النقابات العمالية وذلك بالتعاون مع الخبراء المتخصصين في منظمة العمل الدولية والاتحادات العربية والدولية واستفادت من توصيات الندوات المشتركة مع هذه المنظمات التي أقامتها وحولتها الى قرارات عبر عرضها على الجمعية العمومية والمتعلقة بالتحول الى اتحاد عمالي نقابي كمرحلة ضرورية لغرض أمر واقع أمام الحكم الذي كان يصدر مراسيم بقوانين، مرسوما وراء مرسوم وبسرعة وهو يعلم أن هناك مجلسا تشريعيا قادما هو المكلف بإصدار القوانين، وعلى رغم ذلك كان يتلكأ في إصدار ذات العلاقة باحتياجات ومطالبات القطاعات الاجتماعية ومنها الطبقة العاملة وقانونها الخاص بحقها بتشكيل النقابات العمالية الحرة والمستقلة ولأنها (أي اللجنة العامة لعمال البحرين) قرأت الساحة السياسية والمالية المحلية والعالمية قراءة موضوعية بعيدة عن المصلحة الذاتية والانتهازية، ووضعت أمامها الهدف المنشود ومارست مبدأ (السياسة فن النتيجة) لذلك فرضت موقفها العمالي السليم، حينما لم تتردد بإعلان تحولها الى (اتحاد) وبادرت من دون انتظار في رفع مشروع قانون النقابات العمالية الذي امتاز بانسجامه مع المعايير العربية والدولية في شأن التنظيم النقابي، ووقفت معارضة ضد مرسوم بقانون حكومي مضاد لا يلبي أهداف العمال وحلم النقابة الحرة والمستقلة، ومارست الضغط الإعلامي والتشريعي وحصل الاتحاد بعد إعلانه على دعم خارجي من المنظمات الدولية والعربية ذات العلاقة بالشأن العمالي، ولذلك توج العمال نضالهم التاريخي الطويل بانتصار حقيقي، ذلك لأنهم مارسوا (السياسة فن النتيجة) ومارسوا أيضا سياسة المبادرات والفعل في حين كان الحكم يمارس دور ردة الفعل.
ان هذه المعادلة ذاتها انطبقت على الحركة النسائية التي بادرت بعقد اجتماعات لتشكيل اتحاد نسائي وعلى رغم محاولات الحكم تعطيل ذلك أو إيجاد بدائل او تعطيل التشريع فإن سياسة المبادرة والفعل كان لها أبلغ الأثر في تحقيق هذا المكسب.
ولذلك فإن القوى السياسية والمجتمعية التي مارست في بعض محطاتها السياسية (السياسية فن النتيجة) كانت بالتالي تقوم بدور الفعل في حين كان الحكم يمارس دور ردة الفعل، وهذه السياسة هي التي تمارسها القوى السياسية في بعض المحطات السياسية، كمحطة العريضة الشعبية، ومحطة المطالبة بالأحزاب السياسية والتحرك العملي نحو تأسيس جمعيات سياسية، ومحطة التحول من اللجنة إلى اتحاد عمالي ومن الجمعيات النسائية إلى اتحاد نسائي غير اندماجي، أما باقي المحطات السياسية فقد كان الحكم يمارس دور الفاعل والفعل وكانت القوى المعارضة تمارس دور ردة الفعل والمفعول به.
ولذلك نستطيع أن نكثف الفكرة في أن (السياسة فن النتيجة) في دلالاتها وأبعادها تعني قدرة المعارضة على المبادرة وبالتالي إدارة المعركة السياسية (المعركة بدلالاتها السلمية والميكافيللية والتفاوضية والضغط الاعلامي... الخ) في الساحة والوقت والطريقة التي تختارها هي، أما أن تغرق القوى السياسية في المحطات السياسية وحتى النضالية في فكرة وهاجس (السياسة فن الممكن) والتردد في رفع السقف ومراعاة مشاعر أصحاب القرار وتبريرات الخصوصية وتقدير الظروف الدولية والعربية والاقليمية، وخصوصا أن انفجارات 11 سبتمبر وتداعياتها أصبحت لدى البعض من المعولمين العاملين لتوجيه المجتمع نحو الأمركة ويستخدمونها كبعبع لتخويف القوى السياسية بقبول الأمر الواقع!!»، فان ذلك في الممارسة والواقع يعني أن تكون القوى المعارضة دائما في موقع ردة الفعل وليس الفعل وموقع القبول الكامل تارة والقبول بتحفظ تارة ثانية والرافض بتحفظ تارة ثالثة للمشروعات والمبادرات والبرامج والقرارات كافة التي تتخذها السلطة التنفيذية، وهي كلها في المحصلة النهائية ردود فعل لا تعني بالنسبة إلى السلطة ضغطا من الممكن التراجع عن مواقفها.
إن القوى السياسية - التي كانت متفقة على الأولويات وعلى التناقض وجهودها وطاقاتها كافة متجهة نحو ذلك، بوصلة واضحة الاتجاه، منذ حل المجلس الوطني ولغاية التصويت على ميثاق العمل الوطني- حققت انتصارات وحصلت على مكاسب، ولكن حينما بدأت اتجاهات البوصلة تتعدد والتناقض يختفي في التحليل لدى بعض القوى السياسية، وأصبح فن الممكن وتطوير الموجود هو المبدأ تم تشظي المعارضة إذ انقسمت إلى قوى معارضة مستمرة في رفع مبدأ «السياسة فن النتيجة»، وبوصلتها واضحة الاتجاه نحو الركيزة الدستورية والقانونية (الدستور الجديد 2002)، وأن ما يقوم على أساس دستور غير متفق عليه يتعارض مع ما تم التصويت عليه ويخلق سابقة خطيرة في المسألة الدستورية والقانونية، ولابد من الاستمرار في الموقف المشترك وعدم الانجرار وراء فن الممكن في مرحلة تأسيس الثوابت، وقوى معارضة ارتأت عكس ذلك وقررت ممارسة مبدأ السياسة فن الممكن والمشاركة في الانتخابات تحت تبرير تطوير المؤسسة التشريعية من الداخل وتعديل الوضع والاختصاص والصلاحيات لمجلسي النواب والشورى من الداخل وعبر المشاركة الفاعلة للنواب، ومن دون الدخول في عقم هذا الطرح وتبريراته ومصلحته الذاتية على حساب الثوابت والمصالح العامة.
فإن تشظي المعارضة قد مكن الحكم من تحقيق ما يريده وتمرير المشروع بحسب مرئياته ومصالحه وتوازناته، حيث ضعف الموقف المبدئي والدستوري أمام وجود موقف برغماتي، لبعض القوى الوطنية وتحالفها الواقعي مع الحكم والقوى غير الديمقراطية التي دخلت اللعبة السياسية منطلقات وأهدافا أخرى، وتم اضعاف جبهة القوى المعارضة التي كانت تطمح إلى تحقيق النتيجة الأولى لنضالات شعبنا والمتمثلة (في عودة المجلس الوطني وتفعيل الدستور) وهو شعار لم يحقق سوى شكله إذ اصبح مضمون المجلس الوطني الدستور الجديد غير مضمون المجلس الوطني وصلاحيات السلطة التشريعية والمعترف بها دستوريا.
اصبحت القوى السياسية أمام مفترق الطريق، بين استمرار النضال السلمي الشرعي العلني الداخلي والخارجي لتحقيق سلطة تشريعية حقيقية وفصل للسلطات بشكل حقيقي ودستور ضامن للحقوق والواجبات بشكل حقيقي وسليم، وبين الغرق والذوبان في ما هو كائن ومأسسة المعارضة بحسب شروط وموازنات ورغبات الجهة الغالبة صاحبة الفعل التي ستقرر متى وكيف وماذا ولمن تقدم التنازلات أمام المشاركين اصحاب ردود الفعل والمفعول بهم.
بيد أن قانون التراكمات الكمية سيفعل فعله على أرض الواقع السياسي والشعبي، وخصوصا أن لب المشروع التصالحي الاصلاحي السياسي كان تحقيق التوافق السياسي مع قوى معارضة هي مازالت ولغاية الآن معارضة وأصبحت بعد صدور الدستور الجديد 2002، معارضة لما أفرزه المشروع من اجراءات وخطوات
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ