الإهتمام بمجال البحث والتقصي والتسجيل فيما يتعلق بالتاريخ الشفهي، يكاد يكون محاطا باضطراب في الهواجس والنظر وبالدرجة الأولى في الإقتناع به كمبحث مهم مكمل ورافد المدون والموثق والمؤرشف، ويعود سبب ذلك الإضطراب إلى الهوة العميقة والتناقض فيما هو مدون وموثق ومؤرشف من حيث نسبة صدقيته وحقيقته، يضاف إلى ذلك سبب آخر لا يقل أهمية ، وهو أن مثل هذا المبحث يصطدم بمعالجات يبدو حتى هذه اللحظة انها لم تستطع أن تحسم وتقرر القيمة العلمية والتاريخية ، وصدقية مايروى ويسرد من قبل الشهود (الوثائق المتحركة)، بحكم التفاوت في مستوى النظر والتسجيل، يضاف الى ذلك قدرة الذاكرة على الإحتفاظ بتفاصيل قد يرى الراوي انها ليست بذات أهمية تبعا لمستواه التعليمي والفكري ، بل وحتى الإجتماعي، فيما يرى المسجل لذلك التاريخ أن مثل تلك التفاصيل يمكن لها أن تقرر وتحسم كثيرا من الإشكالات والقضايا المختلف عليها.
بالنظر الى الإهتمام بهذا الحقل ، حقل التاريخ الشفهي ( Oral history ) من طرف الجامعات العربية، يصل المرء الى قناعة ان الجامعات تلك لا علاقة لها من قريب أو بعيد بهذا الحقل، اذا ماتوقفنا جليا أمام ماتم تحقيقه وانجازه وتمويله في هذا الحقل، وهي قناعة تبعث على الصدمة اذا ما أيقنا أننا أمة شفهية بالدرجة الأولى، وموروثنا التاريخي والأدبي قام أكثر ماقام على الشفهي، وظلت الذاكرة هي المحور الأساسي، وبصمة الدليل على حركتنا ووجودنا وفعلنا وتفاعلنا في عالم كان غارقا في بدائيته، ويفتقد الى أدواته المعرفية الضرورية، وبهكذا نظر نظل معنيين بالدرجة الأولى بتوثيق علاقتنا وتعاطينا مع هذا الحقل المهم إلا ان الواقع يشير الى خلاف ذلك.
نعلم أن الولايات المتحدة تعد من أوائل الدول التي أولت هذا الحقل اهتماما خاصا وعبر مبادرات لا علاقة لها بالساسة القابعين في البيت الأبيض، اذ أن السكان الأصليين (الهنود الحمر) قاموا بانتفاضات على مستوى السرد والروي لتاريخهم المطموس والمصادر من قبل المحتل (الرجل الأبيض)... وقد كان سردا ورواية لكل ما يتعلق بالفظاعات والمصادرات التي مست الإنسان والبيئة وحتى المشغولات التي مثلت قيمة وجانبا من الهوية التي حاول الرجل الأبيض اقتلاعها والغاءها، لتحل محلها هوية ال (فورد) وفيما بعد ال (ماكدونالدز) و(مايكروسوفت).
ضمن واقع عربي مزر حاولت وماتزال قوى بعضها ذاتي المنشأ ، انتهاج سياسة (الإقتلاع) (والطمس) بكل ما أوتيت من إمكانات وأجهزة، إذ عمدت الى معالجات واجراء تعديلات لذاكرة تتفرع منها ذاكرات تتعلق بالقضية المركز والأساس والمتمثلة بفلسطين، إذ تم رصد مليارات الدولارات في هذا المجال لإثبات أن الفلسطيني والعربي خطأ جيني وتاريخي، بعد أن سعى ارييل شارون لإثبات أن (لبنان خطأ جغرافي)، مايعني أن الدول العربية برمتها لا تخرج عن ذلك التوصيف المرضي البغيض.
ما الذي نريد التوصل إليه ؟
في الوقت الذي تهمش فيه الجامعات العربية هذا الحقل - باستثناء مبادرات شجاعة تبعث على الأمل تتصدرها الباحثة الفلسطينية المولد، الأميركية الجنسية مي صيقلي وعدد من الباحثين الفلسطينيين في هذا المجال - تضخ الجامعات الصهيونية والأميركية الخاضعة والممولة من قبل اللوبي الصهيوني ملايين الدولارات لإعادة رسم الخرائط والوجود (شفهيا) بدأته عصابات (الهاغانا) وعدد من القيادات العسكرية الصهيونية في مذكرات تنضح بالإفك ومواهب الإقتلاع والنسف، فيما ترى الجامعات العربية في هذا الحقل ضربا من (الكبائر) مثله مثل (الربا) و (واحتساء المنكر).
ذات ضمير قال (هنري ميلر): بالنظر إلى تاريخ الإبادات في العالم تظل أميركا (كريستوفر كولمبوس) واحدة من نماذج تبعث على إعادة النظر في التعامل مع كوكب أبرز صفاته عنصرية مقيتة (وإلا ما الذي يدعو رجلا مثلي (هنري ميلر) للشعور بعدم الإنتماء لحضارة الذبح والتاريخ المسلوق في أروقة «المزاج» والساسة المصابين بلعنة تزويق الرعب والبشاعة وآخر صور التزوير... التزوير الذي يمكنه أن يعيد النظر في وضع الجغرافيا والتاريخ وحتى الفلكلور من قبل ساسة يمتهنون لعبة العبث بالشعوب، مايجعلها دليلا دامغا على خواء هذا الوجود المسور بالتكنولوجيا والمخفور بشيفرة يمكنها أن ترسل كل هذا المنجز الحضاري إلى متاهات تجعل من الحجر آخر العقول القادرة على صوغ متطلبات الكائن البشري
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ