العدد 132 - الأربعاء 15 يناير 2003م الموافق 12 ذي القعدة 1423هـ

الجوكندا بعيــون محرقية

المنامة - حسام ابواصبع 

تحديث: 12 مايو 2017

وصف أحد الاساتذة أثناء الدراسة في المرحلة الثانوية شخصا غامضا في شكله وفي اسمه... أذكره جيدا إنه ليوناردو دافنشي وقال بأنه جامعة، وهو كذلك، فدافنشي ليس مجرد مبدع للجوكندا فحسب، بل هو عالم ومصور ونحات ومعماري وموسيقي ومهندس، وهو ملهم على الدوام سواء بالنسبة لمعاصريه أو إلى من أتوا بعده إلى يومنا هذا... وهذا الإلهام مرشح بقوة للاستمرار في الأيام والسنين.

وإذا كان دافنشي حاضرا في ذائقتنا، ويعرف لوحته القاصي والداني - أعني الجوكندا - فإن هذا الإلهام يدفع في أكثر من اتجاه، فالدراسات والقراءات النقدية والفنية لم تتوقف، وحتى محاولات إعادة تشخيص لوحاته بدورها لم تتوقف، وعلى الدوام هناك من ما يطلعنا في أقاصي الأرض بلوحات تستثمر ما جاء في تجربته الخالدة، و تعيد قراءة هذه اللوحة أو تلك بأسلوب مختلف، وكم من مرة ظهرت هذه الجوكندا بشوارب أو بلحية، أو بعين مفقوءة، أو على هيئة قرصان أو قاطع طريق، وآلاف الاستثمارات الأخرى.

إذا فليس بدعا أن يأتي أحد فنانينا ويعيد قراءة منجز دافنشي في أحد تجلياته «الجوكندا» مقدما رؤيته الخاصة، ومستعرضا لإمكانات متعددة على مستوى زاوية النظر، أو الاستخدام اللوني، وشغل المساحات والفراغات، أو التبئير على ثيمة معينة، أو حتى بالإطاحة بهذه اللوحة رأسا على عقب، وفي كل تناول - بالضرورة - يقف أحد الأهداف شاخصا، وهو الذي يملي رؤية معينة تثمر عن هذا التلاقي، وهو متفاوت من شخص لآخر بحسب الرؤية، والمزاجية، والمرام.

وفي هذا السياق افتتح يوم السبت الماضي معرض الفنان جمال عبدالرحيم «رؤية أخرى»، وبدت فيه الجوكندا سيدة المكان الأولى بلا منازع، إذ اشتمل المعرض على عدد من اللوحات الزيتية لأربع شخصيات هي الجوكندا، ودافيد مايكل أنجلو الشهير، وامرأة غير محددة في تاريخ فني معين وتمثل حال تراثية محلية، وأخرى تبدو معاصرة في ملامحها، بالإضافة إلى كتب فنية قليلة النسخ.

الجوكندا لم تختلف هذه المرة كثيرا عن الجوكندا الأصلية إلا من حيث إعادة توزيع الألوان بنسب معينة، مع تجريب أحيانا في عمل مزيج لوني خارج إطار الجسم في الخلفيات... أو على الحواف والأطراف، أو بإعادة توزيع المساحات اللونية على الوجه وباقي الجسد، بتكبيره تارة، أو بالتركيز على ملمح معين.

سألنا عبدالرحيم لماذا الجوكندا، ولماذا هذا الارتداد إلى قرون مضت... لم تكن عنده تصورات حاسمة عن الحال العامة أو المزاج الخاص الذي أفضى لإعادة استثمار هذه المعطيات الفنية العالقة بالذاكرة العامة، بل شدد على أن دوره ينتهي بمجرد خروج العمل من حيز المرسم، أما حيز العرض فيتحول فيه امتلاك اللوحة من الأنا، إلى جمهور الحاضرين والمتذوقين، لكنه أردف قائلا إن هذا المعرض يمثل في تجليه الأساسي تجسيد أطراف من ذاكرة فنية وشخصية، وربما كان اللاوعي أحد المحركات التي دارت ودفعت لإنجاز هذه التجربة، لكن الأهم عندي - يضيف عبدالرحيم - أن يستفز هذا المعرض الجمهور في لوحاته الزيتية، أو في تقنية الطباعة المستخدمة في الكتب.

وقد نجح عبدالرحيم إلى حد ما في إثارة بعض الأسئلة عن هذه التجربة عموما والتي عاد من خلالها للزيت بعد فترة توقف طويلة دامت أكثر من 10 سنوات قضاها في فن الحفر والطباعة، وأنجز العديد من الأعمال المهمة، والتي فتحت آفاقا رحبة خصوصا في استراتيجيات وآليات المزج بين الكلمة المقروءة، شعر (نثر) رواية لتجارب محلية وعربية، تراثية وحداثية من جهة، وبين فن الجرافيك. مع أن البداية الأولى كانت منطلقة من فنون التلوين. هذا الحنين برره عبدالرحيم نفسه بالقول بأنه محاولة أخرى للتجريب ضمن هذه المساحة الرحبة.

وبالعودة إلى الجوكندا التي حضرت في صياغاتها الجديدة 21 مرة، 9 منها في لوحة زيتية اختار لها إطارات خاصة، وكأنها نافذة تطل على المتذوقين، والبقية الباقية من خلال إصدار خاص، ولعل المفارقة أن تجسيد الزيت جاء بديناميكية، وحيوية تفوق جمالا ما هو متوافر في الإصدار. بما يفتح الأسئلة على مصراعيها... لكن السؤال الأكثر خطورة أن الرؤية العامة التي اعتمد عليها عبدالرحيم لم تلغ دافنشي، ولم تمحو أي شيء من الحضور البهي لهذا العمل الخالد، ومن ثم يكون السؤال عن الجديد، ومدى استحقاقه لأن تفرد له كل هذه المساحة... لقد بدت الألوان على رغم أن بعضها جاء بتراكيب فاقعة، ومختلفة، وبضربات لونية تتباين سرعتها ومساحتها في الخلفيات.

مانحة إيقاعها الخاص، لكنه إيقاع لم يتشكل من اعتماد على تفصيل من اللوحة الأساس، أو على تدرج يضع في حسبانه اشتباك الزمان بالمكان، كما لم تعول كثيرا على تقديم خيارات متعددة لشيء واحد... هذه أسئلة لا تلغي حضور الجوكندا التي عبق بها المكان.

وبحسب تصوري فإن هذا المعرض قد قدم لنا عبدالرحيم ببطاقة تعريف جديدة، لقد كان وكنا بحاجة لإعادة اكتشاف رؤيته الفنية في فضاء غير ذلك الذي التهم كل وقته وإنجازه، وهي إجمالا تجربة تستحق الوقوف عندها





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً