أكدت وثيقة سرية للغاية للبيت الأبيض أن قرار غزو العراق عسكريا قد اتخذ بعد ستة أيام فقط من هجمات 11 سبتمبر/ أيلول التي تعرضت لها الولايات المتحدة. وأن موضوع ما تسميه واشنطن، أسلحة الدمار الشامل العراقية لم يكن هو الدافع. فقد كشفت صحيفة «واشنطن بوست» عن أن الرئيس الأميركي جورج بوش وقع يوم السابع عشر من سبتمبر 2001 تلك الوثيقة التي تتكون من صفحتين وتتضمن خطة شن حرب على أفغانستان باعتبارها جزءا من حملة أميركية عالمية على ما تسميه «الإرهاب». ونقلت الصحيفة عن مسئولين أميركيين كبار أن الوثيقة وجهت أمرا رئاسيا إلى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) ببدء التخطيط العسكري لغزو العراق.
ويتخذ الأمر الرئاسي الأميركي الذي لم يعلن في السابق سمة عمليات صنع القرارات الداخلية التي تم حجبها عن الرأي العام، بجعل العراق النقطة المركزية في حرب أميركا على الإرهاب على مدى الأشهر التسعة التالية لصدور الأمر من دون تقديم سجل عن الاجتماعات الرئيسية والحوادث التي تؤدي إلى قرار رسمي للعمل ضد نظام حكم الرئيس العراقي صدام حسين.
وقال نحو 20 من المشاركين في الاجتماعات الخاصة بالعمل ضد العراق إن القرار بمهاجمة العراق في هذا الوقت برز بطريقة اللجان الفرعية، وفي الغالب فإن العملية التفت حول قنوات صنع القرار التقليدية فيما دفع الأشخاص الذين يطالبون منذ زمن طويل بالإطاحة بالرئيس العراقي بالحرب ضد العراق إلى مقدمة جداول أعمالهم بربط قضيتهم بالحرب ضد الإرهاب. وبوجود البلاد ربما على حافة الحرب فإن النتيجة لهذه العملية الغامضة لايزال يتردد صداها اليوم. فهناك دعم فاتر للعمل العسكري في وزارة الخارجية الأميركية وقلق مخفف في صفوف العسكريين في البنتاغون واضطراب عام لدى كبار المسئولين بصورة نسبية ولدى الجمهور بشأن كيفية تقرير السياسة وحتى متى اتخذ القرار بشأنها.
وكان قرار العدوان على العراق في كثير من جوانبه انتصارا لمجموعة صغيرة من المحافظين داخل الحكومة الأميركية وخارجها الذين وجدوا منذ بداية عمل حكومة بوش أنفسهم أقل عددا من الأصوات الكثيرة المعتدلة في الجيش الأميركي وفي الجهاز البيروقراطي للسياسة الخارجية وأن موقفهم المتشدد إزاء العراق قبل 11 سبتمبر قد تم تبنيه بسرعة من جانب الرئيس بوش ونائبه ديك تشيني بعد الهجمات.
ولكن هذا التحول لم ينقل إلى المعارضين للعمل العسكري إلا بعد مضي عدة أشهر عندما كانت المعركة الداخلية حسمت فعلا. ولكن في الوقت الذي وضعت فيه السياسة ترك المعارضون يجادلون حول التكتيكات مثل ما إذا كان ينبغي الذهاب إلى الأمم المتحدة من دون أن يفهموا بوضوح كيف تم التوصل إلى القرار منذ البداية. وقال مسئول كبير بوزارة الخارجية الأميركية «إنه ببساطة تسلل إلينا خلسة».
ويقول الذين يتبنون شن العدوان على العراق إن العملية قد تبدو غامضة لأن الجواب واضح جدا. إنهم يعتقدون أن بوش فهم فورا بعد 11 سبتمبر أن العراق سيكون الخطوة الرئيسية التالية في حربه العالمية ضد ما يسميه «الإرهاب». وأنه قرر ذلك خلال أيام إن لم يكن خلال ساعات من يوم 11 سبتمبر. وقال مسئول كبير ممن ضغطوا بشدة من أجل العمل العسكري «إن أهم شيء هو أن موقف الرئيس قد تغير بعد 11 سبتمبر. يجب أن يذهب صدام».
وكانت المجموعة الصغيرة من كبار المسئولين الأميركيين، وخصوصا في البنتاغون ومكتب نائب الرئيس، مازالوا منذ زمن طويل يحثون على الإطاحة بالرئيس العراقي في مقالات ورسائل مفتوحة قبل سنوات عدة من تولي بوش السلطة، وكانوا جميعا يعملون من خلال مركز أبحاث يميني يدعى «القرن الأميركي الجديد» أسسوه بإدارة رئيس هيئة موظفي نائب الرئيس الأميركي السابق دان كويل، ويليام كريستول. ومن بين موقعي الرسائل عشرة من كبار المسئولين في حكومة بوش الحالية من بينهم زالمي خليلزاد، بول وولفويتز، دونالد رامسفيلد، جون بولوتون، دوغلاس فيث، ريتشارد أرميتاج، ريتشارد بيرل، لويس ليبي.
وكثير من المطالبين بالعمل العسكري ضد العراق كانوا متشككين في إمكان احتواء صدام حسين إلى ما لا نهاية حتى ولو بتكرار عمليات التفتيش عن الأسلحة ورأوا في سيطرته على العراق واحتمال امتلاكه أسلحة الدمار الشامل من شأنه أن يؤدي إلى عدم استقرار المصالح الأميركية في المنطقة وخصوصا الكيان الصهيوني، حتى انهم مؤيدون بشدة له ويرون في إطاحة صدام حسين مفتاحا لتغيير الديناميكية السياسية في المنطقة كلها. وفي الوقت الذي كان الصراع على أشدّه بين وزارة الخارجية والقيادة المدنية للبنتاغون إزاء السياسة التي يجب أن تتبع تجاه العراق فإن المسئولين في البيت الأبيض عملوا على تنقيح سياسة الحكومة الأميركية حول العراق والتركيز بصورة خاصة على كيفية تنفيذ الموقف الرسمي الخاص بـ «تغيير النظام» في بغداد الذي كانت حكومة الرئيس الديمقراطي السابق بيل كلينتون أقرته. واطلع بوش على المداولات إلا أنه لم تتم تسوية أي شيء عندما وقع الهجوم على البنتاغون ومركز التجارة العالمي. وقال مسئول أميركي كبير «من المؤكد أن هناك أشخاصا في أوقات مختلفة كانوا يجادلون بشأن اتخاذ موقف أشد تجاه صدام إلا أن أحدا لم يقترح إرسال الجيش الأميركي إلى بغداد». وهذا جرى بعد 11 سبتمبر!! فعندما كان تشيني يشاهد على شاشة التلفزيون انهيار«مركز التجارة العالمي» في البيت الأبيض قال لأحد مساعديه إن الأمر سيكون أسوأ بكثير لو كان لديهم أسلحة دمار شامل. والتفكير نفسه وجد لدى مسئولين أميركيين كبار آخرين في الأيام التي تلت ذلك. فقد تساءل رامسفيلد وولفويتز عما إذا كان للرئيس العراقي دور في الهجمات. وخلال أيام بدأت مستشارة بوش للأمن القومي كوندوليزا رايس بصورة خاصة بالإشارة على الرئيس بوش بأنه يحتاج إلى ملاحقة الدول الخارجة على القانون التي تمتلك أسلحة دمار شامل. وقد تمت تغطية ذلك بضرورة التعامل مع أفغانستان أولا. وقال مسئول أميركي: «إنني أتذكر ذلك اليوم عندما وضعنا الخريطة على الطاولة وخرج اللون من وجه الجميع، إن أفغانستان ليست هي المكان الذي ستختارونه للقتال». وفي الوقت الذي كان فيه البنتاغون تخوض الحرب في أفغانستان بدأت بدراسة خطط للعراق تنفيذا للتوجيه الرئاسي في 17 سبتمبر. وفي 19 و20 سبتمبر اجتمعت لجنة البنتاغون الاستشارية المعروفة باسم «مجلس سياسة الدفاع» برئاسة ريتشارد بيرل حضرها رامسفيلد وبحثت بجد أهمية إزاحة الرئيس العراقي من السلطة. ولعبت قضية هجمات الأنثراكس (الجمرة الخبيثة) في الولايات المتحدة دورا في تعزيز وتصميم البيت الأبيض على العمل ضد العراق وتولى تشيني مسئولية التعبئة بهذا الاتجاه. واستغل تيار الصقور عدم الكشف عمن وراء هجمات الأنثراكس في محاولاتهم إلصاق التهمة بالعراق. وفي شهري أكتوبر ونوفمبر 2001 بدأ رامسفيلد وتشيني بإعلان أنهم متأكدون من شكوكهم في وجود روابط بين العراق والإرهابيين استنادا إلى معلومات استخبارية لم تثبت صحتها مثل ما قيل إن القاعدة ربما كانت على وشك الحصول على «قنبلة قذرة» من شأنها أن تنشر مواد إشعاعية. وفي مطلع شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 بدأ الجنرال المتقاعد واين داونينيغ الذي كان يتولى منصب منسق مكافحة الإرهاب في البيت الأبيض بوضع خطط لهجوم على العراق وباطلاع رؤسائه على مدى تقدمه بوضع هذه الخطط كما أن مجموعة تخطيط في البنتاغون ظلت تعمل بجد أيضا حول الخيارات الممكنة. وقال مسئول أميركي كبير مطلع على ذلك «إن الرئيس بوش تأثر بأناس وضعوه في زاوية لأن العراق كان عبئا حول أعناقهم». وقال مسئول كبير في الخارجية الأميركية ممن عارضوا التركيز بهذا الحماس على العراق «إنني أعتقد أن بعض الناس أصبحوا لاهوتيين بهذا الشأن.. إنها أصبحت تقريبا عقيدة دينية وأنه ستكون نهاية مجتمعنا إذا لم نتخذ إجراء الآن».
وكثيرا من هذا النشاط كان مخفيا عن الجمهور الأميركي ونادرا ما كان بوش يذكر العراق في خطبه إلى الأمة قبل تسعة أيام من هجمات 11 سبتمبر، وقد صعد الحديث عن العراق بعد خطاب حال الاتحاد في 28 يناير/ كانون الثاني 2002 وحتى عندها فإن المسئولين عملوا أقصى جهدهم لتغطية معنى كلمات بوش الذي استخدم فيها مصطلح «محور الشر» إذ حذر قائلا: «لن أنتظر الحوادث لتقع في الوقت الذي تتجمع فيه الأخطار». ووقع بوش عقب ذلك أمرا استخباريا بتوسيع أمر رئاسي سابق لوكالة المخابرات المركزية الأميركية بأن تقوم ببرنامج شامل وسري للإطاحة بنظام حكم الرئيس صدام حسين بما في ذلك سلطة استخدام قوة قاتلة لإلقاء القبض على الرئيس العراقي.
وفي أعقاب زيارة تشيني المنطقة في أواخر شهر مارس / آذار 2002 التي أكد فيها رأي البيت البيض بأن العراق يشكل مشكلة ينبغي معالجتها، اتصل بوش في شهر إبريل / نيسان بالمستشارة برايس وقال لها «إن الوقت قد حان لننظر في الأمر فما الذي نقوم به بشأن العراق؟ وقد أعلن بوش في أعقاب سلسلة من الاجتماعات على مستوى الوزراء ونوابهم أنه عزم أمره بأن «صدام بحاجة إلى أن يذهب».
وفي تلك الاجتماعات درس كبار المسئولين الأميركيين ما اعتبروه دليلا جديدا ولكنه غير مؤكد عن برامج العراق لصناعة أسلحة الدمار الشامل ونظروا في الاتصالات بين العراق ومنظمات المقاومة الفلسطينية وجادلوا في أي العناصر من المعارضة العراقية التي ينبغي دعمها وقرروا في النهاية الضغط من أجل وحدة المنفيين العراقيين وداخل البيروقراطية الأميركية.
وبدا قائد القيادة المركزية الجنرال تومي فرانكس بالذهاب إلى البيت الأبيض لإطلاع بوش على تقرير سري عن خطط الحرب على العراق. وتحدث بوش في الأول من يونيو /حزيران 2002 في كلية «وست بوينت» العسكرية عن استراتيجية الهجمات الوقائية. وفي شهر يوليو أبلغت رايس صديقها القديم مدير التخطيط السياسي بوزارة الخارجية الأميركية ريتشارد هاس بأن الرئيس قد حزم أمره واتخذ قرارا بشأن العراق
العدد 131 - الثلثاء 14 يناير 2003م الموافق 11 ذي القعدة 1423هـ