العدد 131 - الثلثاء 14 يناير 2003م الموافق 11 ذي القعدة 1423هـ

خمس ملاحظات على السلوك الأميركي!

القوي لا يفاوض الضعيف... فهو ليس بحاجة إليه

إلياس حنا comments [at] alwasatnews.com

كاتب لبناني، عميد ركن متقاعد

يتّهم العالم الولايات المتحدة بالتفرّد. كما يتّهمها بالفوقيّة تجاه الدول الاخرى، المنافسة منها والصديقة. فأميركا تريد تغيير ما كان، لترسم ما تريد. وهي تضرب المعاهدات الدوليّة، وتنسحب منها. حتى إنها تجرّأت على توجيه الإنذارات المتكرّرة إلى أعلى مرجع دولي هو الامم المتحدة، وعلى لسان رئيسها، ومن على منبر هذه المرجعيّة. هل هذا مقبول؟

طبعا لا، لأن القوي لا يفاوض الضعيف، فهو ليس بحاجة إليه. وليس بحاجة إلى من يقيّد تحرّكاته. فالقوي يريد احتكار النصر، كما يريد الاحتفاظ بالمكاسب الناتجة عن هذا النصر. فلماذا مشاركتها مع الآخر؟ القوي لا يطلب التفاوض، لأنه وبمجرّد جلوسه إلى طاولة المفاوضات، قد يعني هذا الامر ان عليه تقديم التنازلات. فلماذا الذهاب إلى إعطاء شيء من دون مقابل؟

انطلاقا من هذا الواقع، أطلقت أميركا ولأنها الاقوى، الكثير من الاستراتيجيّات، والكثير من التصنيفات. هناك دول محور الشر، كما هناك دول محور أو محاور الديمقراطيّة. كذلك الامر، نشرت الولايات المتحدة مراجعتها النوويّة، وألحقتها باستراتيجيّة الأمن القومي. هدفت أميركا من هذا النشر توجيه رسائل متعدّدة، وبكل الاتجاهات، علّها تستعيد صورتها الردعيّة بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول.

إن أهمّ ما ورد في استراتيجيّة الامن القومي، هو مفهوم الضربات الاستباقيّة. فالعالم لم يتعوّد على سلوك أميركي استباقي. فهي ردّت على اليابان، بعد أن ضُربت في بيرل هاربور. وهي أعلنت الحرب العالميّة على الارهاب، وضربت في افغانستان الارهاب بعد أن أُستهدفت في 11 سبتمبر. هدفت أميركا من هذا الاعلان، نقل المعركة إلى ميدان الاعداء المحتملين. فهي ستضرب من تعتقد انه اصبح خطرا عليها، ومن دون استشارة احد. فتكون بذلك قد اسّست لسلوك دولي جديد في العلاقات الدوليّة، يقود حتما إلى زرع المزيد من الفوضى، فقط لأنها الاقوى.

هل طبّقت اميركا مبدأ الضربة الاستباقيّة منذ إعلانها؟

من الغريب جدا أن تُعلن امبراطوريّة ما استراتيجيّاتها على الملأ، هكذا وبسهولة. فهي بذلك، تُخبر أعداءها عن نواياها مسبقا، وهذا وضع يخالف مبدأ السريّة، التي بدورها تؤمن عنصر المفاجأة. مع اميركا، يصحّ الاعلان عن النوايا مسبقا لأنها الاقوى. ولأنها ضُربت، وظهرت درجة معطوبيّتها المرتفعة علنا بعد هذه الضربة. فكان لابد من إظهار النوايا، ورفع سقف الخطاب العُنفي، وإظهار القوّة، واستعمالها في بعض الاماكن. كل ذلك، بانتظار ان تتبلور لديها استراتيجيّة واعية واضحة، تستطيع من خلالها التعامل مع المشكلات التي استجدّت عليها. لذلك، اعلن الرئيس بوش حربه العالميّة على الارهاب (هذا يشكّل الخطاب). واستعمل القوّة مع عدوّ تقريبا عاجز (في افغانستان). كل ذلك في فترة زمنيّة قصيرة جدا. بعد افغانستان، بدأ موضوع الحرب على العراق. فبدت اميركا اكثر واقعيّة في التعامل مع هذا الملف. تمثّلت هذه الواقعيّة في الذهاب إلى مجلس الأمن لاستصدار القرار 1441. ومع العودة إلى استعمال مبدأ الضربات الوقائيّة، يمكننا قول الآتي: استعملت اميركا هذا المبدأ، ضد الارهابيين فقط. وذلك عندما استهدفت قيادات من القاعدة في اليمن وغيرها. لكنها لم تستخدم هذا المبدأ، ضد ايّة دولة، ضمنا ضد من صنّفتهم في خانة «محور الشر».

أين تدخل كوريا الشمالية في هذه الاستراتيجيّة؟

من الأكيد ان الرئيس بوش لم يستعمل هذا المبدأ مع العراق. فالحرب المرتقبة على العراق، هي قيد التحضير وفي كل المجالات. وهي واضحة وظاهرة، ولا يمكن تسميتها بالحرب الاستباقيّة. حتى ان العراق، وبشهادة الكثير من الخبراء والسياسيين، لا يشكّل إطلاقا أي خطر مباشر على «العم سام». من هنا، لا يجب ان تنطبق عليه مواصفات استراتيجيّة الضربات الاستباقيّة. وهو حتما ليس على صلة بالقاعدة.

فما الملاحظات على السلوك الاميركي تجاه كوريا الشمالية؟

1- إذا كان الرئيس بوش صادقا مع نفسه، وكي يحافظ على صدقيته، وجب عليه ان يخوض الحرب الاستباقيّة ضد كوريا الشماليّة، اليوم وليس غدا. فكوريا الشمالية، وبعكس العراق، تندرج ضمن التوصيف الذي تريده اميركا. فمخاطرها لا تندرج فقط في حيازتها، أو سعيها إلى الحصول على السلاح النووي. لكن، في انها الدولة المارقة الوحيدة في العالم، التي تُعتبر المصدّر الاساسي لتكنولوجيا الصواريخ البالستيّة، لدول تعتبرها اميركا ايضا «مارقة». وهي الدولة التي تهدّد جيرانها، لأنها تملك الصواريخ الكفيلة بضرب هذه البلدان. حتى إنها تهدّد اميركا مباشرة من خلال الصواريخ العابرة للقارات المنوي تجربتها. وإذا ما تحوّلت إلى دولة نوويّة، فهي ستقلب الموازين القائمة في كل الشرق الاقصى. لأن اليابان ستسعى حتما، إلى امتلاك النووي. وهذا الامر قد يقلق الصين، لنشهد نتيجة ذلك سباقا للتسلّح في منطقة حيوية لأميركا.

2- لكن العمليّة الاستباقيّة ليست بالسهولة المتوقّعة، وذلك على رغم تصريح وزير الدفاع الاميركي، بأن اميركا قادرة على خوض حربين اقليميّتين في الوقت نفسه، والانتصار فيهما. فالعوائق كثيرة، اهمّها في الشق اللوجستي. فأميركا تعاني من قلّة وسائل النقل الجوّي للمسارح البعيدة عن الارض الاميركيّة، وخصوصا أنها متورّطة في عمليّة بناء القوى في الخليج لضرب العراق. حتى ان القوى الاميركيّة الموجودة في كوريا الجنوبيّة والمقدّرة بـ 35000 جندي، هي غير قادرة على خوض حرب ضد الحشد الكوري والمُقدّر بحوالي مليون مقاتل.

3- يعتبر البعض ان اميركا ستنتصر في كوريا الشماليّة على المدى البعيد. لكن الاكيد ان الردّ الكوري الشمالي سيكون شاملا وبكل انواع الاسلحة. فالعقيدة الكوريّة الشماليّة تقوم على الآتي: قصف مدفعي وجوي بكل الوسائل المتوافرة. إنزال القوات الخاصة وراء خطوط العدو. خرق الجبهة بكل القوى المدرّعة المتوافرة. هذا عدا عن استعمال اسلحة الدمار الشامل المتوافرة، وخصوصا ان كوريا الشماليّة، تعتبر ان الاسلحة الكيماوية هي من النوع التقليدي، وليست مصنفة من اسلحة الدمار الشامل. إن هذا الحشد قد يقلب كل المنطقة المحيطة بكوريا.ش. فكوريا الجنوبيّة ستكون المتضرّر الاول، لأن 80 في المئة من قواعدها الاقتصاديّة موجودة على بعد 50 كلم عن المنطقة العازلة. وهذا يعني انه ومهما كانت نتيجة الحرب، فإن كوريا الجنوبيّة قد تعود اقتصاديّا إلى الصفر.

4- ماذا سيكون عليه الموقف الصيني، وخصوصا ان الصين كانت قد تدخّلت عسكريّا في الحرب الاولى العام 1950؟ وكيف ستتعامل الصين مع موضوع اللاجئين الكوريّين؟ وهل ستقبل الصين بالوجود الاميركي على حدودها مباشرة بعد النصر على كيم يونغ إيل؟ طبعا كلا، لأن الصين تعتبر حاليا ان توتير الوضع في كوريا يؤذيها مباشرة. فهي في مرحلة عمليّة انتقال السلطة السياسية. وهي تريد المحافظة على نسبة النمو الاقتصادي كي تستطيع استيعاب المشكلات الاجتماعيّة التي قد تنجم عن دخولها إلى منظمة التجارة العالميّة. وهي تريد استمرار تدفّق رؤوس الاموال الاجنبيّة للاستثمار فيها، والحرب قد تبعدها عنها. وأخيرا وليس آخرا، لاتزال الصين تركّز على موضوع تايوان لاستردادها. وإن خلق مشكلة إضافيّة على الحدود الكوريّة قد يُشتّت جهودها.

5- إن الضربة الاستباقيّة لأسلحة الدمار الشامل الكوريّة، تتطلّب تنسيقا مهما ودقيقا بين عدّة وكالات اميركيّة معنيّة بالمجالات الامنيّة والقوى العسكريّة. فالنجاح يتطلّب الآتي: استعلام دقيق وآني عن اماكن وجود هذه الاسلحة. كيف هي موزّعة، عددها، خطورتها في حال اصابتها. فهل ستنشر الاشعاعات؟ وكيف ستؤثّر على المدنيّين؟ مدى الحماية لها. بعد تأمين هذا الاستعلام، وجب وضع خطّة شاملة عملانيّة للتنسيق ما بين هذه المعلومات، والقوى التي ستنفّذ على الأرض. وجب ايضا اختيار السلاح اللازم لتنفيذ المهمة، ونوع القنابل. وجب ايضا ضرورة معرفة وتقييم الضرر الذي ألحق بهذه المنشآت بعد تنفيذ العمليّة. أي قياس مدى النجاح. على اميركا ايضا ان تنسّق مع أصدقائها قبل العمليّة. كذلك الامر، وجب إعلام الدول المجاورة بالعمليّة. وهنا قد تبرز العِقد امام اميركا. فهل ستقبل كوريا.ج، وروسيا والصين بهذا الامر؟

في الختام، قد يُذكّرنا هذا الوضع بقائد عسكري اميركي، هو الجنرال كورتيس لو ماي الذي كان قائدا للقوات الجوية الاستراتيجيّة في العام 1950. فقد اقترح هذا القائد العسكري على القيادة السياسية الاميركية الآتي: استعمال السلاح النووي ضد الصين لانهاء الحرب الكوريّة. كذلك الامر كان اعدّ خططا لضربات نوويّة استباقيّة ضد الاتحاد السوفياتي. وفي العام 1960، وعندما كان قائدا لاركان القوى الجويّة، اقترح ايضا استعمال النووي ضد كوبا لإخراج السوفيات منها. فهل نحن امام وضع مماثل؟ حتى الآن يبدو الجواب بالنفي. فأميركا ستستمر في ارسال المساعدات الغذائيّة إلى كوريا.ش. وستتعاون مع القوى العظمى لحل الامر سياسيّا. وهي ابتكرت استراتيجيّة جديدة - قديمة تقوم على احتواء النظام الكوري الشمالي، على رغم عقم هذا النوع من السلوك بعد تجارب كثيرة. وستُورّط الامم المتحدة، في معالجة الأمر. إذا واستنادا إلى ما نشهده حاليا مع كل من العراق وكوريا يمكننا القول ان بوش لم يحترم كلمته. عل كلٍّ، من سيحاسبه؟ إلا إذا كانت الاستراتيجيّة الكبرى الاميركيّة تقوم على الآتي:

1- شرعنة الاهداف الاميركيّة، من المرجعيّات الدوليّة، بحيث تصبح هذه الاهداف وكأنها مطلب العالم كله.

2- تجزئة المشكلات الكبيرة إلى عدّة اقسام.

3- التعامل مع الجزء، واحتواء الاجزاء الباقية في الوقت نفسه.

فعلا هذا ما يحصل حاليا. فأميركا تحتوي كل من ايران وكوريا الشمالية، عبر الهجوم السياسي عليهما. وعبر فضح مشاريعهما النووية علنا. وفي الوقت نفسه، تستعدّ، وتحشد قواتها لضرب العراق. فهل يمكن لها ان تستمر في ذلك؟ الجواب في عهدة المستقبل، فلننتظر

العدد 131 - الثلثاء 14 يناير 2003م الموافق 11 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً