هل كانت الفتنة نائمة، حتى نبادر جميعا إلى لعن من أيقظها ليلة رأس السنة الميلادية؟ هل خرج كل هذا الكم من الشباب والمراهقين من بين بلاط وأرصفة شارع المعارض زرعا شيطانيا من دون سابق انذار ومعرفة؟ أم أن السماء في تلك الليلة استبدلت قطرات المطر بأجساد آدمية الشكل شيطانية السلوك فاختلط الحابل بالنابل... وتحول شارع المعارض الى ساحة معركة وميدان لحرب شوارع؟
أسئلة كثيرة لاتزال تلح على الجميع، تبحث عن اجابات شافية. ومادام السؤال خرج من العتمة إلى الضوء فإن الجميع مطالب بالمساهمة في البحث عن الأجوبة...
قدر لي مثل كثيرين غيري أن أكون قريبا من موقع الحدث إذ كنت في شارع الفاتح بالقرب من جسر المشاة مقابل النادي البحري، وكان من حظ هذا الجسر أن تعرض لوابل من الحجارة ونصيب وافر من التكسير على رغم أن كثيرين من الشباب استخدموه للهروب من ملاحقة الشرطة في تلك الليلة الليلاء.
ولست بحاجة الى أن أصف شيئا مما حدث فقد تم نقل كل الوقائع على الهواء مباشرة لكنني هنا مهتم ومعني بتحليل الأسباب التي أدت إلى ما بات يعرف بحوادث شارع المعارض في ليلة رأس السنة.
وفي رأيي المتواضع فإن ما شاهدته ليلة رأس السنة كان نتيجة ولم يكن حدثا في حد ذاته، لأن مظاهر الاحتفالات في البلاد شهدت ولاتزال تشهد تغييرا ممنهجا منذ أكثر من عامين تحت سمع وبصر الجميع ومن دون أن يبادر أي منا إلى الانتباه الى خطورة هذا التغيير في طريقة الاحتفالات وتحويلها الى احتفالات صاخبة دائما مترافقة مع تجمعات جماهيرية شبابية غير منضبطة في بعض الأحيان.
ويبدو أن بعضا من الجهات المسئولة في البلاد - وفي معرض سعيها الحثيث الى مجاراة الجمعيات والتيارات السياسية المعارضة في حشد الأنصار والمريدين - فقدت الزمام ولم تعد قادرة على السيطرة على الجماهير التي تحشدها للاحتفالات والمهرجانات التي تنظمها في كثير من المناسبات ويشكل عنصر الشباب العمود الفقري لها.
وهنا لابد من الاشارة إلى أن اخفاق الجهات الرسمية في السيطرة على المجاميع والكتل البشرية التي دأبت على تحريكها للتعبير عن ابتهاجها بالاحتفالات الرسمية، قابله نجاح منقطع النظير لدى الطرف الآخر (الجمعيات السياسية المعارضة) التي استطاعت أن تضبط حركة أنصارها وتحسن من مستوى الأداء لديها تجاه الابتعاد عن هذه المظاهر التي كانت تعكر صفو التحركات والتجمعات التي تدعو إليها، الأمر الذي تجلى واضحا في التزام هذه التجمعات وهذه المسيرات الحاشدة رفع علم البحرين وصور القيادة السياسية بالاضافة الى ترشيد، إن لم يكن وقف، رفع أية رايات أو صور أخرى، ما ساهم في تعزيز صدقية هذه التيارات السياسية وأثبت حسن نواياها وقوة سيطرتها على المجاميع التي تدعوها الى المشاركة في الاحتفالات والاحتجاجات التي تنظمها.
وحتى لا يقال ان هذا الكلام مبني على الافتراضات والتقديرات فقط نسوق هنا بعضا من الأمثلة على ادارة الاحتفالات والمهرجانات لدى الطرفين ثم نعرج إلى حوادث السنة الجديدة ونطابق ما حدث مع الحيثيات التي نستخرجها.
أولا: على صعيد الاحتفالات الرسمية:
حتى وقت قريب لم يكن من المعتاد أن تمتلئ مدرجات وساحات استاد البحرين الوطني في أية مناسبة من المناسبات الرسمية، وفي افضل الاحوال كانت اعداد المشاركين لا تتجاوز بضعة آلاف من الراغبين في الاستمتاع بهذه الاحتفالات باعتبارها نوعا من الترفيه المجاني المصحوب بالسلوك الهادئ والمنضبط دائما.
لكن هذه المدرجات دأبت ومنذ عامين فقط على استقبال اعداد فوق طاقاتها يشكل الشباب النسبة الأعظم منها، الأمر الذي حدا بالأجهزة المسئولة الى قفل أبواب الاستاد الوطني واغلاق الطرق المؤدية إليه في كثير من المناسبات قبل بدء الاحتفالات بعدة ساعات بهدف التحكم في هذه المجاميع والسيطرة عليها.
واللافت الى النظر ازدياد وتكاثر ذلك النوع من الاحتفالات والمهرجانات الكبيرة التي باتت الجهات الرسمية تنظمها في اكثر من مناسبة، ومن ثم دعوة الجمهور إلى المشاركة بكثافة ومن دون مقابل على رغم أن هذه الاحتفالات تكلف الكثير من الأموال والجهود.
ساهم ذلك في اثارة شغف لدى الجمهور وحب فضول دفعه الى اعتياد الحصول على الفرجة المجانية عالية القيمة، ومن ثم فإن اية مناسبة من المناسبات الجديدة تجعله على اهبة الاستعداد للمشاركة فيها بشغف وبهجة كبيرة. ثم جاءت الاحتفالات الاخرى التي تعود الجمهور أن تمر مرور الكرام في السنوات الماضية لتضيف بعدا جديدا الى نوعية الاحتفالات في البلاد، وذلك من خلال قيام الأجهزة الاعلامية وتحديدا جهاز التلفزيون بتغطية هذه الاحتفالات بطريقة تشجيعية تعبر بشكل مقصود أو غير مقصود عن دعم ومساندة كل هذه التصرفات والحركات التي يقوم بها المحتفلون خصوصا الشباب منهم، ما دفعهم إلى التمادي بصورة أكبر في كثير من الأحيان. وعلى رغم ذلك فإن تماديهم كان ينظر إليه باعتباره سرورا وفرحا وغبطة.
ساعد ذلك على تأسيس سلوك جديد أدى إلى ترسيخ نمط مختلف من الاحتفالات في البلاد، وهكذا نجد أن الاستعدادات للمشاركة في هذه الاحتفالات تتم قبل فترة كبيرة لإحياء أية مناسبة وبشكل ابتكاري، بينما الجميع يصفق ويبدي إعجابه وفرحه، حتى تحولت ذكريات وطنية عزيزة على قلوبنا إلى مناسبات صاخبة تتسم بكثير من الفوضى والارباك المروري والاجتماعي ويتم نقلها على الهواء مباشرة.
ظهر الأمر وكأن هناك سباقا محموما لاثبات أن البلاد تعيش احتفالات متواصلة لا تنتهي حتى تبدأ من جديد، وفي معظم، إن لم يكن كل، هذه الاحتفالات كان عنصر الشباب يشحذ شحذا للمشاركة والابتكار والتفنن في التمايل على انغام الطبل والطار ومختلف الآلات الموسيقية والأصوات الرجالية والنسائية التي يتم التعاقد معها مقابل آلاف الدنانير سنويا. وأدى ذلك إلى نشوء جيل كان ينتظر الفرح على الطريقة الجديدة بفارغ الصبر ويستعد للمشاركة في اي احتفال يقام في البلاد مصداقا للمثل الشعبي «كل من طق طبلة قال أنا قبله» وهنا نكتشف بأن هذا الجيل الذي اعتاد الاحتفالات الصاخبة كان ينتظر أن تقوم الأجهزة الرسمية باحياء احتفالات رأس السنة الميلادية بشغف كبير لكنه أحبط وأسقط من يديه فانجر الى الحوادث في ليلة رأس السنة.
ثانيا: على صعيد القوى السياسية:
لابد من القول ان الجمعيات السياسية المعارضة وعلى رغم حداثة التجربة التي تعيشها في الانفتاح السياسي فإنها طورت من قدراتها وأدواتها وانضباطاتها بصورة ملحوظة وملموسة، وساهم ذلك في تحسين صورة المعارضة السياسية وخصوصا قدرتها على السيطرة على التجمعات الجماهيرية الشعبية التي تدعو إليها. كما استطاعت هذه الجمعيات أن تظهر قدرا كبيرا من ضبط النفس فلا تنجر إلى مصادمات واحتكاكات غير مسئولة مع الأجهزة التي اثبتت هي الأخرى قدرتها على التعامل بروح من المسئولية والابتعاد عن الاثارة تنفيذا لتوجيهات القيادة السياسية الحكيمة بترك الجمعيات السياسية تنفذ برامجها واحتفالاتها بعيدا عن المضايقات.
ساهم ذلك في زيادة الوعي وتكريس التزام التوجيهات التي تصدرها الجهات المنظمة لهذه الفعاليات حتى بات من السهل تفريق الجماهير المشاركة في اي مسيرات أو اعتصامات سياسية بكل سهولة ويسر بعد انتهاء هذه المناسبات بمجرد الدعوة الى التفرق واعلان انتهاء الفعالية. وكمثال على ذلك نذكر بعضا من الفعاليات التي انتهت بسلام، مثل الدعوة السلمية الى مقاطعة الانتخابات النيابية، التجمع الحاشد في نادي العروبة للغرض نفسه، الاحتجاجات المتوالية على قانون 56، حفل تأبين الشهيد محمد جمعة، الاحتفال باليوم العالمي للقدس، الاحتجاجات والمسيرات المناهضة للعدوان الأميركي المرتقب على العراق، التجمعات المتكررة عند بيت الامم المتحدة في المناسبات السياسية المختلفة، الندوات السياسية الجماهيرية الكبرى في مختلف مدن وقرى مملكة البحرين، وتجمعات ضحايا التعذيب.
إن مرور كل هذه التجمعات بسلام من دون حوادث تخريب أو شغب أو ازعاج للسلطات الأمنية، على رغم عدم وجود أية مظاهر لهذه الأجهزة اللهم إلا بعض رجال المرور في معظم الأحيان لتنظيم حركة السير، يعطي الانطباع بأن الجمعيات السياسية بلغت سن الرشد في مجال التعاطي مع هذا النوع من التجمعات الحاشدة، وفي الوقت نفسه يدفع عنها وبصورة نهائية تهمة الوقوف وراء الحوادث التي وقعت ليلة رأس السنة بأي شكل من الأشكال مهما حاول البعض الاشارة ولو من طرف خفي إلى أي نوع من المسئولية عليها.
ثالثا: قراءة مختلفة في الحوادث:
من كل ما تقدم نستنتج ان هذه الحوادث هي تحصيل حاصل نتج عن شحن اعلامي واحتفالي متواصل طوال اكثر من عامين ادى الى بروز نمط مختلف من الاحتفالات ترعرع ونشأ تحت سمع وبصر الأجهزة الاعلامية الرسمية وبدعم وتشجيع منها. ثم كان الاخفاق الكبير لهذه الأجهزة في عدم تمكنها من تفريغ شحنات الشباب وطاقاتهم المخزونة في ليلة تم التحضير لها وإعلانها عبر مختلف الوسائل الاعلامية التي ركزت على برامج الفنادق والمطاعم والمراقص للاحتفال برأس السنة الميلادية حتى الصباح.
الخلاصة
ان ذلك يدفعنا الى الاعتقاد بأن الحوادث التي وقعت ليلة رأس السنة لم تكن إلا حوادث طائشة اشترك فيها شباب وفتية من المواطنين والمقيمين والزوار من دون أية نوايا سيئة مبيتة ومن دون سابق تخطيط أو معرفة. والجمعيات السياسية والدينية ومؤسسات المجتمع المدني والأجهزة الرسمية كافة مطالبة باعادة قراءة ما حدث بعيدا عن الاتهامات المتبادلة بل التعاون فيما بينها لاحتواء تداعيات الحوادث.
ليس من مصلحة أحد تسييس الحوادث تحت أية ذريعة لأن ذلك يساهم في هروب رؤوس الأموال والمشروعات الاقتصادية من البلاد. وليست هناك حاجة إلى قوانين وانظمة جديدة لمحاربة هذه الظواهر، بل ان المطلوب هو تطويق التجمعات الشبابية في حال وقوع حوادث مشابهة والسعي إلى تفريقها بسرعة لتفادي الحاق الاضرار بالممتلكات والمواطنين والزوار والمرافق العامة. والجهات الرسمية المعنية بالشباب والرياضة والتربية والتعليم والمؤسسات الدينية والجمعيات المهنية وجمعيات النفع العام مطالبة جميعا بالمشاركة في استقطاب الشباب وابعاده عن ان يكون وقودا للمنافسة والتجاذب السياسي لصالح هذا الطرف أو ذاك. ويجب الابتعاد عن المعالجة الطائفية لهذا الموضوع وتأكيد أن من شارك في الحوادث هم أبناء هذا الوطن والمقيمون على أرضه والتعاطي معهم وفق هذه الحقيقة فقط. وعلى الصحافة أن تتوقف عن اشعال واذكاء روح الاختلاف على هذا الموضوع وتتيح للاجهزة القضائية الفرصة الكاملة لقول كلمة الفصل. كذلك يجب اعادة النظر في طريقة تغطية الفعاليات والاحتفالات الوطنية على صعيد التلفزيون والصحافة والاذاعة.
وأخيرا يجب خلق برامج ومشروعات اجتماعية وثقافية ورياضية قادرة على استقطاب وتلبية احتياجات القطاعات الشبابية في البلاد، بعد دراسة هذه الظواهر ووضع الحلول المناسبة لها بشكل علمي يستفيد من تجارب الدول المتقدمة في معالجة هذه الظواهر
إقرأ أيضا لـ "محمد حسن العرادي"العدد 130 - الإثنين 13 يناير 2003م الموافق 10 ذي القعدة 1423هـ