بداية أود الإشارة إلى أن موضوع شارع المعارض ما كان له أن يأخذ كل هذا البعد الذي أخذه لو تم التعامل معه بعيدا عن التسييس والتهييج ومحاولة الاستقطاب الطائفي وتصفية «حسابات قديمة». «افتعال» هذه العوامل كلها لم يكن في مصلحة البلد على الإطلاق، ولا من مصلحة المستقبل الذي ينشده الجميع. ولم أكن أود الحديث مرة أخرى عن الموضوع ذاته لولا إصرار بعض «الحدادين» على النفث في الكير القديم، من محترفي الكتابة، الذين لا يرون ما هو أبعد من حدود أنوفهم. وما أقصرها من همة، وما أصغره من طموح عندما تختزل دوافع الكتابة في المصالح الشخصية و«ميرة الأهل»، و«زيادة كيل بعير»، فضلا عن الفئوية الضيقة، التي يدفع الوطن كله ثمنها من رصيد أمنه واستقراره وسمعة أهله «الأجاويد».
عنز ...ولو طار
يذكرني ما جرى أمامنا من طروحات صاخبة بقصة لأعرابي عجوز كان يمشي في الصحراء مع شاب من قبيلته، إذ شاهدا سوادا يلوح في الأفق البعيد. فقال الشاب: انه غراب أسود، فرد عليه العجوز: بل عنز يدب على الأرض. وظل الطرفان كلٌّ يصر على موقفه، وهما يقتربان من تلك الغمامة السوداء، حتى فوجئا بها ترتفع لتطير في الهواء، فقال الشاب: ألم أقل لك انه غراب، فرد عليه العجوز «الحكيم»: بل «عنز ولو طار»!
الجانب الرسمي قال كلمته، والجمعيات السياسية قالت كلمتها، وجاءت الكلمتان في إطار من التعقل والاتزان، ولكن بعض حملة الأقلام القديمة ما زالوا مصرين على مواقفهم المنطلقة من نظرية «المؤامرة»! وهو الذي أوقع البلاد في دوامة من التحليلات التي أضفت على الواقع مزيدا من الغموض بدل الكشف عن الملابسات، فضلا عن تشخيص الداء الذي لحق بهذا المجتمع المصدوم.
قطعت جهينة قول كل مدّعٍ للحكمة
ما حدث في المعارض كان صدمة للكثيرين، أدانه الجميع ولم يجد أحدا دافع عنه. ومع ذلك لم يكن غريبا تماما كما لم يكن المتورطون فيه من أبناء الكواكب الأخرى الذين هبطوا من السماء. وإذا أردنا الصراحة والصدق فإنه نتاج طبيعي جدا للثقافة التي راجت على مدار ربع قرن، في غيبة من وعي المجتمع وإهماله، حتى فرّخت وأنتجت ما انتجت. وهي أكبر رد على من أراد أن يرمي بالكرة في ملعب الآخرين، فهذه «بضاعتكم ردت إليكم...» وإن كان كلامنا لن يقنع الطرف الآخر مادامت عقليته تحكمها نظرية: «عنز ولو طار»! ولذلك من الأفضل أن نترك الحديث للاختصاصيين، فهم أفضل من يشخّص ويدقق ويصدر الأحكام في حيدةٍ غير موضع اتهام، يحكم المعرفة وامتلاك المنهج وأدوات التحليل العلمي.
أصحاب الاختصاص من محامين وحقوقيين واجتماعيين فندوا الطروحات «المثلجة» المسحوبة من سلة المهملات القديمة، ونفوا أن تكون مفاجأة لهم، إذ كانت بوادرها تلوح في الأفق من قبل، ولكن أصحاب الآراء الراكدة والأفكار المعتقة لا يزالون يراوحون في المربع القديم، ظنا منهم أن كل ما يحدث في البلد لابد أن يكون وراءه «يد آثمة، وعقل شيطاني مدبر، وجماعة سرية»، وأن ما جرى «مخطط يهدف ضرب الاقتصاد الوطني»... بل ان بعضهم لم يستح من اتهام وإدانة «أهل القرى»، التي تمثل شريحة كبيرة من سكان البلاد، هكذا وبكل بساطة واستهتار، من دون تحقيق أو محاكمة أو استماعٍ لأقوال شهودٍ على أقل تقدير! مشانق يريدون إعادة نصبها من جديد ما صدّقنها انها طويت، ومحاكم تفتيش يريدون عقدها، في مطلع القرن الحادي والعشرين، بطرق وسائل القرون الوسطى، وبعقليات الكهنة الذين يدّعون معرفة ما تخفي الصدور، ليلصقوا حساباتهم وأحقادهم وأمراضهم النفسية، ولو كان الإنصاف يقتضي محاسبتهم على هذا العبث والانفلات من كل قيد تفرضه آداب مهنة الشرفاء، خصوصا ان ما يطرحونه يمس أمن البلد بكامله.
المساجد الوادعة... آخر المتهمين!
وما عشت رأيت عجبا في هذه التحليلات «المحنّطة» التي أصيبت بالعشى الفكري، فضاعت وأرادت أن تضيع الآخرين. لكن أعجب هذه التحليلات التي تفتقر الى النضج، ومازالت تعيش طور المراهقة ما أتحفنا به أحد الدهاقنة من إقحام بيوت الله في المعمعة، حين سنّ سيفه وانبرى ليعلن حربه على المساجد والجوامع والمآتم وروادها... فكأن حملات الأميركان على كل ما فيه اسم الإسلام، من مساجد وجمعيات ومؤسسات خيرية و... كأنها لا تكفي، حتى يتبرع بقلمه الأحمر في التحريض عليها، ليتم اعتقالها وإرسالها إلى غوانتانامو أيضا! وأمنيتي أن تقف هذه الأقلام عند حدها، وتتقي ربها في هذا الوطن الخارج حديثا من عهد مغلق يريد أن يتخطاه، الى أفق أكثر انفتاحا. وليدع القرى في فقرها وحاجتها تعيش في الظل، هادئة مستقرة، ولا يعود إلى نكء الجراح بهذا القلم المسموم، أو يحاول تطبيق نظرية لينين في «اختلاق» الصراع هذه المرة بين «المدن» و«الأرياف»، فيكفينا ما عانيناه عبر العقود السابقة، وبلدنا من الصغر والبساطة ما لا تحتمل معه مثل هذه التنظيرات التي طمرها الرفيق جورباتشوف في التراب!
وما يدل على أنه يعيش في عالم القرن الماضي، ولا يعي ما حدث على البلد من تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية وأخلاقية كبرى، انه يصدر عن أحكام عمرها عشرة أعوام على الأقل. فهو لديه أفكار «طرازها قديم جدا» عن وضع البلد، وبالذات المساجد وروادها، الذين قلّ عددهم واقتصر في الأكثر على كبار السن، وتحوّلت مجاميع الشباب إلى المجمعات التجارية لقضاء أوقات فراغهم، ومن هناك اكتسبوا ثقافة الهمبورغر وقصة الشعر «البانكز». ولم يعد للمسجد ذلك التأثير والتوجيه على سلوك المجتمع، ولو كان لما ازداد معدل السرقات والاعتداء على الأعراض والانفلات الأخلاقي والمخدرات... وحتى حوادث المرور القاتلة. فمن يجلس إلى جانب المنابر لن يسمع إلا النصح والتوجيه نحو الالتزام بالفضائل والأخلاق التي باتت غريبة، وغريب أهلها في ظل الأصوات الزاعقة الداعية إلى الانفتاح والتحرر من القيود كلها ومحاربة الفضائل والأخلاق بصفتها «رجعية ممقوتة» وإرثا من الماضي «الظلامي» البغيض!
«الهوليغنز»... أصناف أخرى!
يقولون: رُب ضارة نافعة، ومن محاسن ما جرى في شارع المعارض، ان كان ثمة محاسن فيه، انها عرفتنا على وجود أصناف من الـ «هوليغنز» غير النوع الذي قام بعمليات التخريب. فما صدر عن مجموعة الشباب الذي سارع الجميع إلى إدانته ووصفه بالطائش والمغترب والمخرب والفوضوي والـ...، ما جرى كشف عن وجود صنف من الـ «هوليغنز» من بعض حملة الأقلام: تجربتهم في الحياة أطول عمرا، وهم أكثر «عتاقة» وأرفع صوتا، طريقتهم الوحيدة توزيع التهم من بروجهم العاجية، فهم الوحيدون الذين يفهمون و«يفتون»، وبقية خلق الله لا يجيدون القراءة... هؤلاء لا تجد في دنانهم غير الأحكام القديمة والتحليلات البائتة - المبيتة كالخمر العتيق.
مشكلة هؤلاء انهم لا يدركون أبعاد ما يكتبون، ولا يصدرون عن روح تنم عن المسئولية تجاه وطنهم وأبنائه، فأحكامهم جاهزة، والموقف «الفئوي» المسبق الذي يصدرون عنه لا يحتاج إلا إلى سحب العلبة من على الرف! جرّب ان تبحث عن الفرق بين «دمّر» و«أحرق» و«ضرب» في شارع المعارض، وبين من طالب بـ «اضربوهم»، و«عاقبوهم» و«اضربوهم بيد من حديد»... و«لابد من قوانين جديدة صارمة»، في مطالبة مشبوهة بقمع الحرية التي بدأت رئة المجتمع تتعود عليها، فتراهم يصدرون عن نزعة «هوليغنزية» واحدة. فـ «الهوليغنز» ليسوا أفرادا بأعينهم، وليسوا جماعة سرية منظمة، وإنما هم خليط من هنا وهناك، وسلوك و«نفسية»، قد تجد بعضهم حامل قلم، أو نائبا في برلمان، يتحدث عن «أشرار» و«مجرمين»، وليس عن فئة كبيرة من جيل ضائع يدفع ثمن تقصيرنا وتخلّف تربيتنا الأسرية ومناهجنا التربوية وإعلامنا المقدّس التائه «الغلبان».
في البداية ربما يجد المرء عذرا لما وقع فيه البعض من أحكام بسبب الارتباك وعوامل الصدمة، ولكن ان يبادر البعض عن سابق عمد وإصرار إلى إلصاق التهم وتشويه صور الأبرياء جريا على سياسة: «أخذ البريء بالمذنب»، فهذا غير مقبول بالذات من حملة القلم الذين يفترض ان يحملوا مشعل التنوير، لا النفخ في كير الحداد وتأجيج الجمر تحت الرماد، معتقدين ان القلم الذي أقسم به القرآن أهون من جناح البعوض. والثمن؟ تسألونني عن الثمن؟ يدفعه الحاكم والمحكوم، والوطن وأبناء الوطن. تجربة العقدين الماضيين تقول ذلك بكل وضوح: الثمن غالٍ يا سادة، دفعته الغالبية الصامتة التي يراد تطويق عنقها بحبلٍ جديد، أفلا يكفي النفخ من جديد؟
من أجل مستقبل البلد
خوفي على البلد وأهل البلد ومستقبل البلد، يدعوني إلى حث الجميع أن اتقوا الله في مستقبل أجياله، الذي سيتعرض للخطر إذا انبرى البعض في كل منعطف أو عند هبة أي ريح، بالصياح من جديد بـ «ضرورة عودة القوانين الصارمة»، في مغازلة فاضحة لقانون «أمن الدولة» العجوز، الذي عانينا منه كثيرا، سجنا وتشريدا وتجويعا وإضرارا بسمعة الوطن. ونحن جيل مضى... ولم يبقَ في العمر إلا صبابة كصبابة الاناء ولكن... اتقوا الله في مستقبل الجيل المقبل، أطفال المدارس الابتدائية والإعدادية اليوم لئلا تبتلعهم السجون كما ابتلعت الذين من قبلهم.
خطيئة «عشاق قانون أمن الدولة» هؤلاء كخطيئة معاوية التي جرّت عليه انتقاد الشاعر وتقريعه: «أتسخط أن يقال أبوك عفٌ»...أتسخطون لهذه السمعة الحسنة والصورة الجميلة التي اكتسبتها عروس الخليج خلال عامين؟ أم ان كفة الوطن ومسقبل اجياله لا تساوي «ميرة الأهل وزيادة كيل بعير»؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 130 - الإثنين 13 يناير 2003م الموافق 10 ذي القعدة 1423هـ