التلميحات الاميركية عن غضب ادارة البيت الأبيض من السياسة التركية الراهنة يكشف عن خطورة الاستراتيجية التي قررتها واشنطن بذريعة الانتقام من ضربة 11 سبتمبر/ ايلول ,,2001. لا عن تمرد حكومة انقرة.
هناك اكثر من اتجاه في البيت الأبيض يضغط على الرئيس الاميركي ويدفعه نحو وضع تركيا ضمن لائحة الدول «المارقة» او من الدول المطلوب مطاردتها سياسيا واقتصاديا وأمنيا.
«مثلث الشر» المتسلط على ادارة بوش (تشيني، رامسفيلد، رايس) يرى المسألة من زاوية القوة. فكل دولة تتحدى اميركا او تناور محاولة التملص من سياساتها يجب ان تصنف في خانة الاعداء (معنا او ضدنا). و«مثلث الشر» ينظر إلى تركيا وغيرها من زاوية تحدي الارادة الاميركية لا من زاوية المصالح واختلاف وجهات النظر والقراءة المختلفة للتوجهات العامة للاستراتيجية الاميركية. نظرية القوة في منهج «مثلث الشر» تقول ان اميركا تستطيع خوض اكثر من حرب على اكثر من جبهة في وقت واحد وستخرج منتصرة عسكريا في المواقع كلها.
وأصحاب نظرية القوة المسيطرون على السياسة الاميركية يؤكدون للرئيس بوش ان واشنطن تستطيع ان تخوض حربها على العراق و«الشرق الأوسط» دفعة واحدة ومن دون حاجة للقواعد التركية ومن دون ضرورة اخذ موافقتها على فتح حدودها امام قواتها البرية. ويرى هؤلاء انه لا مانع لوجستيا يعطل امكانات حصول مواجهات عسكرية في اكثر من ثلاث مناطق اقليمية في العالم وتستطيع الولايات المتحدة ان تنتصر فيها منفردة من دون تحالفات او صداقات... فأصحاب نظرية القوة يعتقدون ان المعركة آتية، وان كسر ارادات تلك الامم والدول مسألة لابد من وقوعها وهي حاصلة بقرار لابد من اتخاذه سواء من واشنطن أو من عواصم «الدول المارقة» او ما يطلق عليها دول «محور الشر». وبرأي هؤلاء ان ظروف انتصار الولايات المتحدة متوافرة الآن اكثر من المستقبل، وتأجيل المواجهة «الحتمية» يعطي فرصة افضل لتلك الدول لتجهيز نفسها واعداد ادوات قتالية تجعل من امكانات تدميرها اصعب.
اصحاب «نظرية القوة» المسيطرون الآن على قرارات ادارة بوش الجمهورية يؤمنون بحرق المراحل وبأن «الجيوش» تستطيع اختصار المسافات واختزال الوقت واجتراح «معجزات» في زمن قصير. فالجيوش المدرعة بأحدث وسائل القوة تستطيع، برأي هؤلاء، تدمير ما هو موجود في ايام وإعادة رسم خرائط الامم وهيئات الدول في اسابيع... فلماذا الانتـظار ما دامت الذرائع موجودة وقابلية المواجهة متوافرة وامكانات الانتصار واردة؟
المشكلة في ادارة البيت الأبيض، في ظل قيادة اشرار الحزب الجمهوري، ان اصحاب «نظرية المصالح» ضعفاء وغير قادرين على تغيير منهج كسر ارادات الامم والدول الذي يبدو انه يسيطر على واشنطن.
اصحاب «نظرية المصالح» ينظرون إلى المسألة من زاوية معاكسة وهي ان الانفتاح والتبادل التجاري والحوار الدبلوماسي يعطل امكانات الاستنفار ويعطي فرصة لنمو قوى قادرة على اعادة بناء الثقة وتجديد الأمل بعالم سعيد تعيش في ظله الشعوب المختلفة في ثقافاتها ولغاتها وألوانها. فإعطاء فرصة لهذه الدول وفك الحصار المضروب حولها يفتح ثغرات في جدرانها ويفسح المجال للولايات المتحدة بالدخول اليها وتفكيك عناصر قوتها العسكرية سلما ومن دون حروب. فهذه الدول لا تريد اصلا الحرب ولكنها مضطرة للقتال في حال فرض عليها خيار الحرب لا غير. وهذا الخيار مكلف للغاية للولايات المتحدة ولشعوب تلك الدول ومحيطها الجغرافي والسياسي.
منطق اصحاب «نظرية المصالح» يحتاج إلى وقت وسنوات من العمل الشاق وهو ما يرفضه اصحاب النظرية المضادة الذين يتمسكون بمنهج القوة كأساس لتغيير المعادلات في اسرع وقت. والمشكلة ان ادارة البيت الأبيض واقعة تحت تأثير تيار «مثلث الشر» وتطرفه الذي لا مثيل له منذ نهاية الحرب العالمية الثانية وهزيمة المحور الفاشي - النازي الذي كان يردد اقوال القوة نفسها.
حتى امثال وزير الخارجية السابق هنري كيسنجر (الجمهوري المتطرف) قدم استقالته من رئاسة لجنة تقصي الحقائق والبحث في اسباب وقوع ضربة 11 سبتمبر بعد ثلاثة اسابيع... لانه كما يبدو لم يستوعب او يتقبل ما يقوله هؤلاء الاشرار عن العالم الآخر او تلك الشعوب والدول المختلفة في العالم.
استقالة كيسنجر، وقبله جورج ميتشل من قيادة اللجنة، اشارة واضحة إلى الخطر الذي يشكله هذا التيار (اصحاب نظرية القوة) على مصالح الولايات المتحدة ومصير شعوب العالم.
إلى الاستقالة هناك عشرات التصريحات والتلميحات والدراسات والمقالات التي صدرت عن مسئولين وباحثين من كندا وفرنسا والمانيا وبريطانيا تحذر من خطورة هذا التيار واحتمال ان تجر قراراته المتهورة العالم إلى سلسلة حروب تدميرية تودي بحياة الملايين من «الشرق الأوسط» الى كوريا الشمالية. يمكن ان تكون بعض تلك الابحاث خاطئة في تصوراتها وتقديراتها الا انه لا يمكن ان تكون كلها خاطئة وادارة البيت الأبيض وحدها على صواب. فهذا من الامور المستحيلة وربما تكون تلميحات اميركا وتعبيراتها عن غضب ادارة البيت الأبيض من سياسة حليفها الثابت تركيا انتقال الاستراتيجية الاميركية من طور الخطر الى طور الجنون
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 130 - الإثنين 13 يناير 2003م الموافق 10 ذي القعدة 1423هـ