العدد 130 - الإثنين 13 يناير 2003م الموافق 10 ذي القعدة 1423هـ

إشكالات تأويل الجرجاني في النقد الحديث

يمثل عبدالقاهر الجرجاني حالا استثنائية في الدرس البلاغي العربي القديم، ولعله كان من خلال كتابيه «دلائل الاعجاز» و«اسرار البلاغة» نسخ كل ما جاء في المتن البلاغي السابق على منجزه، مقدما تصورات مختلفة لا ترنو إلى التعقيد في صيغته المدرسية - التعليمية، بقدر ما تتوسل إلما خاصا بالتراكيب العامة. وهو ما جعل إدلاء الجرجاني سواء في نظريته الشهيرة «النظم» او في غيرها، خير شاهد على الذائقة العربية في لحظة تجليها القصوى... ولعل منجز الجرجاني قد مثل الحد الفاصل، إذ لم يبرز بعده من ارتقى بهذا الدرس، وفتح آفاقا جديدة... بقدر ما حبط به إلى حدود التعريفات والتقنينات.

كما أسهمت مؤلفاته ووسائله في ان تكون محطة استقطاب لدى الباحثين العرب المعاصرين كل بحسب طرحه، ففريق منهم اتجه إلى هذا المتن الجرجاني قاصدا تقديم قراءة تخضع لآليات وشروط عمل ما جاء به من منظور تفسيري، في حين سعى فريق آخر إلى إعادة الاعتبار إليه بوصفه أحد العلماء الاجلاء الذي كان سباقا قبل تقعيد الدرس اللساني والنحوي الغربي بقرون، وذلك بإقامة مقارنات، وعقد مفاضلات تبين استثنائية الرجل، ولمحاته الثاقبة على مستوى التراكيب من الجملة إلى النص، أما الفريق الثالث فقدم قراءات مقتضبة، لم تنظر إلى عمله ككل، وإنما سعت لليِّ عنق ما جاء عنده، أو ماورد عند اسماء شهيرة مثل جاكبسون وتشومسكي وغيرهما من علماء اللسان واللغة والدلالة.

وفي هذا السياق صدر حديثا ضمن مشروع النشر المشترك بين وزارة الاعلام والمؤسسة العربية للدراسة والنشر كتاب يبحث في هذه القضايا المختلفة من منطلق دراسة إشكالية التأويل، وبما يعد نقدا للنقد، الكتاب بعنوان «عبدالقاهر الجرجاني في النقد العربي الحديث... دراسة في إشكالية التأويل» لمحمد عبدالغفار، وهو في الاصل اطروحة علمية نال صاحبها عليها درجة الماجستير في النقد الادبي من جامعة البحرين.

وهو الكتاب الاول - بحسب علمنا - الذي يصدر في سياق حركة التأليف المحلي لما ينطوي تحت باب نقد النقد. إذ تمحور الكتاب حول الكيفية التي تعاطى خلالها مجموعة من النقاد العرب مع اطروحات الجرجاني في حضوره واشتباكه مع المنجز النقدي العربي الحديث المتكئ على مناهج ومرجعيات غربية حديثة تمثلت في التأويل والاسلوبية واستراتيجية التفكيك عند كل من: عاطف جودة، عزالدين اسماعيل، طارق النعمان، نصر حامد ابوزيد، الولي محمد، عبدالله الغذامي بشكل اساسي وغيرهم من نقاد عرب استثمروا هذا التقاطعات ولكن بشكل ثانوي، ولم يفردوا مؤلفات تسترشد بالخريطة القرائية نفسها.

يقول عبدالغفار عن هذه العلاقات الثلاثية: «ونلاحظ ايضا ان المفاهيم البلاغية والنقدية في نص الجرجاني من جهة، والمفاهيم الغربية من جهة اخرى، ليست أدوات لانتاج التأويلات وبنائها فحسب، وإنما المشكلات تستدعي النظر، لان المفاهيم النقدية تؤثر في السياقت المدروسة، وتتأثر بها ايضا. اضف... إلى ان تلك الممارسات تتأسس على تعارضات تنتمي إلى مستوى المفاهيم، إذ تكون مكونات مفهوم ما في نص الجرجاني مساوية أو مكافئة لمكونات المفهوم الغربي، والذي تم الاستناد إليه في عملية التأويل. كما ان هناك تعارضات تأخذ شكلا آخر... وذلك عندما تكون مكونات مفهوم ما في نص الجرجاني تختلف كلها... عن مكونات المفهوم الغربي الذي تم الاستناد اليه في عملية التأويل. فالتعارضات النظرية تحدث نتيجة تسليط المفهوم الغربي ذي المكونات الخاصة على مفهوم ذي مكونات مختلفة في نص الجرجاني، وذلك يستدعي إنشاء سياقات وخصوصا تعوض انعدام التكافؤ النظري بينهما».

والاقتباس السابق يؤشر على المنهجية التي اعتمدها الكاتب والتي تتوزع على ثلاثة محاور، أولها الالمام بنص/ منجز الجرجاني نفسه بجوانبه كافة، وفي سياقه التاريخي، ثم الالمام بالمفهومات الغربية يمختلف مناهجها ومشاربها المعرفية، واخيرا فك التعارضات، وإيضاح اختلاف السياقات، والحمولة التي ادت إلى استثمار هذه المفهومات الجرجانية - إن صح التعبير - وتهيئتها لتنظيم في سياق المفهومات الغربية، على رغم اختلاف الحمولة، والجيولوجيا التي يتمتع كل مفهوم بها في سياق الثقافة التي ينتمي اليها.

يتكون الكتاب من ثلاثة فصول، جاء الاول بعنوان: إشكالية التأويل، الفصل الثاني بعنوان إشكالية الاسلوب، وجاء الفصل الثالث بعنوان إشكالية الاختلاف، وضم كل فصل عددا من المباحث التي تروم فض الاشتباك وتقييم التجارب النقدية العربية في تعاطيها مع هذه القضايا.

ويعد الكتاب متميزا في اطروحته وفي طريقة القراءة، وهي تجربة أولى مهمة ولاشك، وتوضح بجلاء الكيفية التي عمل بها النقاد العرب على التقريب بين مفهوم التعليق عند الجرجاني وبنية التوزيع والاختيار عند جاكبسون مثلا، او بين الاستعارة وانساق التأويل، أو بين المجاز والاثر كما جاء عن جاك دريدا وغير ذلك، ثم إنشاء سياق جديد، بتطبيقات مختلفة تكون غير مبررة أو غير منضبطة منهجيا وتحتاج إلى مراجعة وإعادة نظر.

محمد عبدالغفار. عبدالقاهر الجرجاني في النقد العربي الحديث، دراسة في إشكالية التأويل.

بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط1، 2002 ،182 صفحة





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:59 ص

      امينة

      بورك فيكم على هذا التقديم و الذي يظهر من خلاله أهمية هذا المؤلف و الذي يبث فينا الرغبة في الاطلاع عليه لآنه و كما يبدو فهو مفيد لمن يبحث في قضايا الأويل و خاصة اذا كان البحث متعلق بالتراث العربي الزاخر

اقرأ ايضاً