تجري في تونس منذ سنوات محاولات لرفع الغبار عن التاريخ السياسي الحديث، سواء بالنسبة للكثير من الجوانب المطموسة المتعلقة بالحركة الوطنية، أو تلك الخاصة بأهم الحوادث والأزمات التي مرت بها دولة الاستقلال في عهد الرئيس السابق الحبيب بورقيبة. فبعد صمت طويل بدأت المبادرات تتعدد في هذا الاتجاه، وأخذت تتوالى شهادات بعض الذين عاشوا تلك المراحل ومازال على قيد الحياة. وتأتي «مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات» الخاصة في طليعة المؤسسات التي تجرأت على نبش الذاكرة الجماعية واستنطاق الكثير من السياسيين والمسئولين السابقين، الذين انفكت أخيرا عقدتهم وقدموا رواياتهم وقراءاتهم للحوادث التي هزت البلاد والتونسيين خلال الخمسين السنة الماضية. فالتونسيون يعتبرون من أكثر النخب العربية إحجاما عن كتابة مذكراتهم. وقد يسأل سائل من خارج تونس: لماذا تأخرت عملية استحضار الماضي القريب كل هذا الوقت؟
رواية التاريخ جزء من إدارة الحكم
لم يكن بورقيبة حاكما عاديا. كان ينتمي إلى جيل الزعماء الذين أفرزتهم أوضاع ما بعد الحرب العالمية الثانية، الذين رأوا في أنفسهم شخصيات استثنائية هيأتهم الأقدار للقيام بأعمال غير عادية. ولهذا السبب بالذات جنح غالبيتهم نحو الانفراد بالحكم والرأي والاستبداد بشعوبهم التي صبرت عليهم و«قبلت» إلى حد كبير بأن «تغفر» لهم خطاياهم وتتجاوز عن عدد من الكوارث التي تسببوا فيها.
كان بورقيبة من أشد الزعماء العرب شغفا برواية التاريخ، حتى انه حول عملية سرد الوقائع التاريخية إلى جزء محوري من ايديولوجية الحكم وإحدى وسائله الناجعة. كان يملك القدرة على تحويل الحوادث إلى ملامح يكون هو دائما محورها وبطلها الشعبي الحكيم الذي يتمتع بالجرأة وبعد النظر. وانتهى به الحال إلى ان يختزل تاريخ تونس في سيرته الذاتية. انه لم يلغِ فقط الآخرين الذين كانوا من قبله أو وقفوا إلى جانبه أو وفروا له الفرص للبروز والتفرد بالقرار، وإنما التفت أيضا إلى القرون التي خلت من تاريخ البلاد، فجعل منها أشبه بمرحلة ما قبل ميلاد المسيح، إذ وصف التونسيين في تلك المراحل بأنهم لم يكونوا سوى ذرات من الأفراد، وانتظروه طيلة تلك القرون لكي يوحدهم ويجعل منهم شعبا بل و«أمة»، ويشيد لهم دولة تونسية «لحما ودما».
وبلغ به تضخم الذات والخوف من المنافسة في احتلال مكانة أفضل في قلوب التونسيين درجة جعلته يتورط في مقارنة نفسه بالرسول (ص).
التماهي بين تاريخ شعب وسيرة فرد
لعب هذا العامل دورا حاسما في لجم الغالبية الساحقة وجعلها لا تجرأ على ان تخالف الرواية الرسمية للتاريخ، وخصوصا بالنسبة للحوادث التي يكون بورقيبة طرفا فيها. وبما ان ظهوره على الركح السياسي حصل مع أواخر العشرينات فقد تمت مصادرة تلك الحقبة التاريخية التي تبدأ بخلافه مع القيادات التقليدية للحزب الدستوري وفي مقدمتهم أب الحركة الوطنية الشيخ عبدالعزيز الثعالبي وصولا إلى آخر يوم حكم فيه البلاد. وككل مستبد وجد مؤرخين وسياسيين من سخروا حياتهم لكتابة التاريخ الرسمي، كما تم تسخير وسائل الإعلام والمقررات الدراسية والهياكل البحثية والمرتزقة الأجانب والمحليين لإضفاء طابع القداسة على ذلك.
عندما يتحكم الزعماء والحكام في الذاكرة الجماعية لا يترددون لحظة واحدة في تزوير الحقائق وشطب ما يكرهونه وإلغاء من اختلفوا معه، وتفسير الحوادث والوقائع وفق أهوائهم ورغباتهم. لقد تنكر بورقيبه لكل رفاقه تقريبا، واتهمهم فرادى أو جماعات بالخوف أو الجهل أو سوء التقدير. وقلل من أهميتهم، حتى الذين نجحوا في فرض وجودهم بحث لهم عن هفوة أو خلق لهم قصة لإبراز انه صاحب الفضل عليهم وانه هو الذي كان يقف وراء نجاحهم. أما الذين خالفوه في الرأي أو تصارع معهم، فكان مآلهم الشطب منذ لحظة الخلاف معه.
الصراع البورقيبي
اليوسفي ونظرية «الفتنة»
كان الأمين العام السابق للحزب الدستوري والرجل الثاني فيه صالح يوسف، أول الأقربين الذين أخرجوا من التاريخ والذاكرة الجماعية. لقد بقيت الغالبية الواسعة جدا من التونسيين فترة طويلة تكن عداء لهذا الرجل الذي قاد أول خلاف حاد ضد بورقيبة بعد ان قبل هذا الأخير صيغة الاستقلال الداخلي، في حين تمسك خصمه بالمطالبة بالاستقلال التام. وعلى رغم مرور 47 عاما على ذلك الصراع بين الرجلين إلا انه لايزال يثير فضول التونسيين، ويثير بعض الجدل بين سياسييهم ومثقفيهم.
كان أول خلاف ينشأ داخل الحزب الذي قاد الحركة الوطنية وبوأته المعطيات جميعها لبناء الدولة الجديدة. لكنه بدلا من ان يدار بطرق ديمقراطية تحول بسرعة إلى معركة واسعة النطاق لتصفية الحسابات السياسية والشخصية، ما كاد ان ينقلب إلى حرب أهلية شاملة، زادها دلالة وخطورة انحياز القوات الفرنسية لصالح بورقيبة خوفا من علاقة بن يوسف بعبدالناصر. وأثرت نتائج تلك المعركة تأثيرا واسع النطاق على الاتجاهات المستقبلية للدولة الجديدة في المجالات السياسية والثقافية والاجتماعية جميعها. فالقسوة الشديدة التي عامل بها بورقيبة خصومه من رجالات حزبه السابقين كشفت عن رفض عميق لأي جنوح نحو التعددية والاختلاف في الرأي. لا يعني ذلك ان صالح بن يوسف كان ديمقراطيا، لكن المؤكد ان الحزب الدستوري لم تترسخ في ثقافته وهياكله القيم الديمقراطية، وذلك منذ الخلاف الأول الذي تعرض له في مطلع الثلاثينات. قاوم خلال قيادته للحركة الوطنية كل التيارات والنقابات والجمعيات التي حاولت الاستقلال بقرارها، مثلما حصل مع الحركة الطلابية التي أفرزها جامع الزيتونة. لهذا كان من الطبيعي ان يؤسس هذا الحزب سلطة غير ديمقراطية، ألغت كل أشكال التعددية بعد الاستقلال مباشرة وألحقت كل فعاليات المجتمع المدني بهياكل الحزب والدولة. لقد اقترن الخلاف السياسي بالفتنة. لهذا كان الخطاب الرسمي بما في ذلك الكتب المدرسية يصر على وصف ذلك الخلاف التاريخي بـ «الفتنة اليوسفية» في إحالة واعية لمصطلح الفتنة المشحون بالدلالات السلبية.
حسم الخلافات بالقوة والعنف
فشلت كل محاولات التوفيق والمصالحة بين الرجلين المتنافسين على الحكم، وذلك على رغم حصول تونس على استقلالها التام الذي اختلفا بشأن كيفية الحصول عليه. وانتهى الصراع عبر مرحلتين مؤلمتين جدا. تمثلت الأولى في المحاولة الانقلابية الفاشلة التي أقدم عليها أنصار صالح بن يوسف في العام 1962 والتي ظنوا من خلالها انهم سيتمكنون من إزاحة بورقيبة عن السلطة وتغيير مجرى الدولة الجديدة. وبقطع النظر عن التناقضات التي كانت تشق صفوف الانقلابيين وغموض مشروعهم السياسي وقلة خبرة الكثير منهم في المجال السياسي، والدوامة الخطيرة التي كادت ان تدخلها البلاد، فإن مجرد اللجوء إلى أسلوب الانقلاب العسكري يعكس في حد ذاته حال انسداد الأفق التي واجهت الدستوريين أنفسهم فما بالك بغيرهم.
أما الوجه الآخر للحدث الذي لا يقل درامية فيتمثل في القسوة التي تعامل بها بورقيبة معهم، والقرار الذي اتخذه بتصفية رأس الحركة المعارضه. ولشدة اطمئنان بورقيبة للموقف الشعبي، وغياب سلطة قضائية مستقلة، لم يتردد في لحظة من لحظات النشوة في الاعتراف بأنه كان وراء اغتيال غريمه صالح بن يوسف في ألمانيا، وذلك في محاضرة علنية ألقاها بالمركب الجامعي في تونس العاصمة مع نهاية السعبينات. هذا يعني انه على رغم اختلاف شخصية بورقيبة عن حكام عرب دمويين - خصوصا في المشرق العربي - إلا انه لم يتردد في بعض المحطات من اللجوء إلى التعذيب والارهاب وحتى الاغتيال للمحافظة على الحكم والزعامة.
من هذه الزاوية تكتسب محاولات الكشف عن الجوانب المطموسة في الماضي وإعادة كتابة التاريخ أهمية كبرى، لكونها تساعد التونسيين على اكتساب وعي تاريخي بمجمل تجاربهم، وإدارك الأسباب العميقة لأزمة الديمقراطية في وجدانهم وثقافتهم وسلوكهم الاجتماعي والسياسي
العدد 129 - الأحد 12 يناير 2003م الموافق 09 ذي القعدة 1423هـ