العدد 129 - الأحد 12 يناير 2003م الموافق 09 ذي القعدة 1423هـ

ارتباك أهل الخليج أم إرباكهم

محمد غانم الرميحي comments [at] alwasatnews.com

مع اقتراب ساعة الحسم على المسرح العراقي، تسافر إلى مناطق مختلفة من الخليج، وتصغي إلى افكار ورؤى متخذي القرار أو المراقبين، فلا تسمع إلا تعبيرات الحيرة، وتراجع القرارات التي تتخذ بعجالة، إلا أن هذه الحيرة يصاحبها الارتباك، فبعض هذه القرارات لا داعي لها وبعضها يدل على الحيرة أكثر مما يدل على تصور واضح وجلي لما يراد أو ما لا يراد.

هذه الحيرة وذاك الارتباك ليس نابعا مما سيحدث مع بدء العمليات العسكرية في العراق، بل هو نابع من حيرة ما يمكن أن يعقب تلك العمليات العسكرية من وضع سياسي جديد في المنطقة. فالحليف الأميركي حتى الآن لم يظهر على وجه الدقة ماذا يريد أو يرغب في أن يرى من سياسات عامة في منطقة الخليج، كما انه لا يعلن بوضوح رؤيته المستقبلية لهذه المنطقة الحساسة من العالم، إما بسبب عدم وجود هذه الرؤية أو بسبب إخفاء متعمد للمتوقع، والرسائل الواردة من هناك، الواضحة أو المستترة، اقل ما يقال فيها انها غامضة وبعضها متناقص.

واضح أن الخطوات العملية التي يتخذها الطرف الأميركي في منطقة الخليج تقود إلى التيقن من أن وجوده في الخليج سيكون شبه دائم، فالاتفاقات العسكرية التي توقع مع بعض دول المنطقة تمتد إلى عشرين سنة وأكثر، كما أن تأجير المنافع العامة كالسكن وأمثاله في بعض دول الخليج توقع عقودها لعدد من السنوات يقارب السنوات الخمس، وهو زمن طويل نسبيا لمثل هذه العقود، يصاحب كل ذلك حشد عسكري كبير ومكثف، وخطط يعلن بعضها وتذهب إلى تأكيد أن تنفيذ السياسات المبتغاة يحتاج إلى وقت طويل نسبيا، كل ذلك يؤدي إلى القول ان ثمة اندفاعا لملء فراغ تشعر به الإدارة الأميركية حقا أو باطلا، وتساعدها الظروف القائمة على فعل ذلك.

الهدف المعلن الآن هو العراق، ويبدو أن هناك اتفاقا بين المراقبين في الخليج على أن هذا الهدف مستقر الوفاق عليه، وظاهر باعتباره هدفا سياسيا لا لبس فيه، وله تبريراته المنطقية، إلا أن غير الظاهر هو السياسة الأميركية المتوسطة والبعيدة المدى، في العراق وفي الجوار، بعد تحقيق المراد المباشر في الهدف الأول.

تشتكي الولايات المتحدة من فكر للإرهاب قد تفشى وأصابها بضرر بالغ، وكانت منطقة الخليج احدى المناطق المهمة التي احتضنت هذا الفكر من وجهة نظرها، فالمطلوب إذا هو تغيير المناهج التعليمية وتنقيتها من شبهات هذا الفكر، حتى يشب الجيل الجديد وهو متخلص من أردانه، إلا أن هذا التصور هو تصور تبسيطي، لعدد من الأسباب، فأولا من المشكوك فيه أن مصدر التعصب الوحيد وغير المنازع هو المناهج المدرسية الرسمية، فالمدرسة هي نتاج مجموعة من العناصر المجتمعية، كما انها ليست حاسمة في بناء التوجهات العامة للناشئة، وثانيا ان الإرهاب ليس محصورا هناك بين ضفتي الكتب المدرسية، وإلا كان التخلص منه أمرا ميسورا، فهو متداخل في بنية ثقافية تم اعتمادها منذ زمن نتيجة الممارسات الطويلة في التثقيف المجتمعي العام، فالإرهاب نتاج للتعصب، والأخير هو الابن الشرعي لعدم قبول التعددية من جهة، واغتراب تنتهك فيه الكثير من القيم المتوافق عليها من جهة أخرى، فالتعصب هو تشوهات للصورة النمطية للآخر، وهي صور نمطية دينية أو طائفية أو اجتماعية أو ثقافية، يجري مبكرا غرسها في نفوس الناشئة، متخللة بالجهل من جهة أو بالمصالح من جهة أخرى، وبالتالي فإن تنقية المناهج المدرسية بحد ذاتها هي كمعالجة النتيجة من دون التعرف على السبب، وعادة ما يكون الفكر هو نتاج ممارسات وتصورات واقعة على الأرض، فإن عولجت هذه الممارسات تمت إزالة أسباب التعصب، ومن ثم الإرهاب، لذلك فإن الجهود لابد أن تنصرف إلى الأسباب لا النتائج، وأسباب الإرهاب هي ثالوث الإحباط الذي يتحول إلى عدوانية عادة ما توجه إلى مصدر وهمي ومتخيل لسبب الإحباط، وتؤدي هذه العدوانية إلى (كبش فداء) للمحبطين، فهي إذا أسباب تتعدى فقط مناهج الدراسة كما يراد أن يسطح للظاهرة، كما أن هذا الإحباط يتجاوز دول الخليج إلى محيط عربي تتهم جماعات فيه بأنها غذت الفعل الإرهابي بالرجال والفكر.

في بعض التصريحات الأميركية الأخرى نجد أن بؤرة الاهتمام تتحول إلى المجال السياسي، فبعض الاطراف الاميركية تتحدث عن ضرورة دمقرطة مجتمعات الخليج، والدفع بها إلى تبني ممارسات (ديمقراطية) في تعاطيها الشأن العام، وتأتي تصريحات أخرى تقال على لسان بعض أهل السلطة في السياسة الاميركية، متناقضة مع ذلك التوجه، وتذهب إلى القول ان الديمقراطية لا يجب أن تتبنى من دول الخليج دفعة واحدة، بل يجب أن تقدم إلى المجتمع على شكل جرعات خفيفة!

بين هاتين المدرستين من التصريحات يحتار الكثيرون، ففي الأولى لا تكسب مثل تلك التصريحات جزءا من المجتمع، يرى أن تطبيق الديمقراطية بشكلها الغربي غير جائز أو ممكن في هذه المجتمعات، وفي التالية لا تكسب تلك التصريحات المضادة بتقديم الديمقراطية على جرعات صغيرة، فئات واسعة من المطالبين بها، والذين يرون فيها احدى الوسائل الناجعة للقضاء على التعصب، وبالتالي الارهاب.

فأي السياسات ترغب الولايات المتحدة حقيقة في ان تراها مطبقة في الدول العربية المجاورة للعراق وأي الشرائح الاجتماعية تريد الولايات المتحدة أن تكسبها؟

حقيقة الأمر انه لا إصلاح التعليم ولا تبني خطوات في الدمقرطة بحد ذاتها يمكن أن يقدما حلولا ناجعة ان استثنينا النظر إلى الموضوع الاقتصادي، فالعالم العربي يعج بالفقراء والمعوزين، ويغدى هؤلاء إعلاميا بفكرة إعلامية خاطئة، أن اهل الخليج أغنياء، قد يكون ذلك صحيحا من حيث الشكل، أما الجوهر فإن الاقتصاد غير المنتج لا يمكن أن يقود إلى الغنى بالمعنى الاقتصادي، القائم على الإنتاج خارج القطاع الحكومي، فلا تتوافر الحرية لأفراد المجتمع في مواجهة سلطة تملك التحكم في الاقتصاد، ويمكن أن تغلق أمام هؤلاء الأفراد أبواب الرزق ان أرادت. لقد كان مقتل الحرية، كما ظهر جليا في التجربة الاشتراكية، هو الاعتماد كليا على الدولة، والسيد الذي يطعمك لا يجوز لك تجاهه إلا الشكر. والحيرة البادية في حديث من لقيت في دول الخليج، تتجاوز ذلك لتصل إلى القضية الأصلية، وهي مستقبل العراق نفسه، فحتى الآن تشاهد هذا الحشد العسكري الهائل في منطقة الخليج وتقريبا كل يوم يأتيك بأخبار حشود جديدة، وفي المقابل تسمع من واشنطن أن (القرار لم يتخذ بعد) ومن ثم تقرأ تسريبات إعلامية مختلفة، ومتناقضة أيضا، سواء في بقاء الحكم كما هو في العراق بعد أن يقدم التنازلات المطلوبة، أو خروج الحكام الحاليين إلى المنفى، أو تعيين حاكم أميركي على العراق في المستقبل، تصبح ادارته شريكا في منظمة (الأوبك) أيضا، أو حكومة جديدة تشارك فيها المعارضة، كل ذلك تكهنات، بمثلها تزداد الحيرة ويتسارع الارتباك.

بنية الاستقرار المعروف، سواء الاقتصادي أو السياسي أو الثقافي في الخليج، تتعرض في هذه الفترة الحرجة للاهتزاز الشديد، والواضح أن المؤسسات المنوط بها أن تنظر في مثل هذه الحالات مثل مجلس التعاون الخليجي، غير قادرة بسبب الاختلافات في الرؤى، أن تقدم تصورات معقولة لمواجهة الكبير الآتي، كما لا توجد في منطقتنا مراكز بحث مستقلة تقدم إلينا بعض المؤشرات للاستعداد للآتي، وما لدينا من توقعات هو النزر اليسير، ويبدو أن الخليج مراقب وغير مشارك فيما يجري، متوقع للحوادث غير قادر على التأثير فيها، وهو مثل بقية الدول العربية لا يستطيع حولا ولا قوة، الفرق أن تلك الدول ربما تكون بعيدة جزئيا عن عين العاصفة، أما الخليج وأهله فهما في وسطها تماما

إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"

العدد 129 - الأحد 12 يناير 2003م الموافق 09 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً