العدد 129 - الأحد 12 يناير 2003م الموافق 09 ذي القعدة 1423هـ

الوحدة والنمو... التقدم والديمقراطية

كان جمال الدين الافغاني، بعدما بذل جهوده الوحدوية التي لم تصل، قد قدم للسلطان عبدالحميد الثاني مشروعا التفافيا، يقوم على تخفيف وطأة المركزية وإعطاء الاطراف (العربية خصوصا) مزيدا من الحرية الذاتية، وإتاحة الفرص لديها، من اجل تنمية لا مركزية متوازنة، فكان جواب عبدالحميد إبداء خوفه على السلطة وقال: ولكن يا سيد ماذا تركت لتخت آل عثمان! أما الآن، وقد تحولت الأطراف إلى مراكز ناجزة ودول وطنية ذات مؤسسات سيادية كاملة، فإن الصعوبات قد تفاقمت ولم تندمل الفجوات الطبيعية، في التكوينات الاجتماعية، والتي لم يسمح لها بالتطور الطبيعي، وتحققت فجوات اجتماعية وفوارق قامت على أساس اقتصادي، سببته الفوارق النوعية بين الثروات الطبيعية في مختلف الاقطار، والتي لم تسمح الحروب الداخلية، والحرب القطرية، والمغامرات القومية (حرب الخليج) وغياب العقل التنموي، بتوظيف عطاءاتها تنمويا في الاقطار الفقيرة... فهل يكون المشروع الوحدوي المنشود اشد التفافا وأكثر واقعية، فيتجنب مشروع الدولة الواحدة إلى حال اتحادية ما، اصبحت تقوم مقام الضرورة امام احتمالات استشراء التجزئة وانقسام الدولة الوطنية، إلى دول او كانتونات، بعد ان تنجز او تستكمل انقسامها إلى غيتوات... اي بعد ان تقفل ابواب الغيتوات على أهلها، بما يقتضي ذلك من ذرائع؟

ان من الطبيعي، نظرا للعوائق التي افرزتها المصالح والسلوكيات التي تأسست على الدولة القطرية وحدودها ان يتجه العقلاء إلى حماية الوحدة في نصابها او واقعها او سياقها المجتمعي، متوقعين، من خلال الجهد المشترك والمتراكم، ثقافة وعلائق وحدوية، متوافقة مع نمو في وعي وضرورة الوحدة، ومع قوانين وانظمة اقتصادية (السوق العربية المشتركة مثلا) وبعدها تأتي السياسية في موعدها، على حال ملائمة ومستوعبة لمسألة التعدد، والاجابة على السؤال: كيف لا تكون الوحدة العربية تهميشا او تهديدا للأقوام الأخرى؟ وكيف لا تكون الوحدة الاسلامية تذويبا للمذاهب - بالعنف المباشر وغير المباشر - ولا تهميشا لأهل الأديان الأخرى؟

الإسلام والعروبة والوحدة

لقد أدى نزوع الدولة العثمانية إلى الاستبداد والمركزية الشديدة على حساب الاطراف إلى اندفاعات في الحركات العربية التي ناهضتها، ما أتاح الفرصة، لأن تلتبس التوجهات المعادية للإسلام، بالتوجهات العربية القومية، الداعية إلى المزيد من الحرية من ضمن الرابطة العثمانية، ما جعل الدعوة إلى التحرر القومي، تبدو وكأنها قائمة على العداء للإسلام، ولكن القراءة المتأنية لمسيرة حركة التحرر العربي، تكشف ان شعارات وأهدافا كالتحرر والتحرير والوحدة والتقدم، تضع حامليها، منطقيا وطبيعيا في سياق احيائي، يتيح التوازن أو الموازنة بين التطلع إلى المعاصرة، وبين الارتباط المنهجي بالمنابع والمكونات الاصلية، اي ان الاحياء وان بدا احيانا، وكأنه تناقض او تضاد أو تعارض مع الاسلام، ثقافة وحضارة، الا انه يعود إليه... وينهض الاسلام مضمونا حضاريا وثقافيا وأخلاقيا، لأي مشروع عربي نهضوي.

إذن، فالمشروع العربي لا يمر مرورا عابر بالاسلام، بل يقيم فيه، من دون ان يهجر الافاق والأصقاع الثقافية والروحية والحضارية الأخرى، بل يراها أمداء حيوية للطموح... وهكذا تدخل في مفهوم الاسلامي النهضوي، كل المكونات الشاخصة والبارزة في الذات العربية، من المسيحية المتأصلة، إلى التراكمات المتواصلة، حتى لو كان التعبير عنها خفيا وغير داخل في المشهد والوعي اليومي، ومن هنا يضع المتابعون الغربيون الحركة العربية في سياقها الأوسع، مع الاسلام لا ضده ولا من دونه.

الوحدة والعوائق العظمى

في جدل الوحدة، لابد أن نأخذ في اعتبارنا عوائقها... التي تراكمت شكلا ومضمونا، حجما وعمقا، على المدى الزمني لتكوين وتكوّن الدول الوطنية، عربيا واسلاميا، من بلاد الشام الى بنغلادش، إلى الاحتمالات الرديئة في مستقبل اندونيسيا... ما لم يكن مقطوع الصلة بالأوضاع السابقة في القرون الخالية.

وهكذا انتهينا مثلا، عربيا واسلاميا، إلى ان مليارا وربع المليار من المسلمين والعرب، موزعون الآن على خمسين دولة، أعضاء كاملي العضوية، في منظمة المؤتمر الاسلامي، او الجامعة العربية، او الأمم المتحدة، او منظمة الوحدة الافريقية الخ... وهي دول ذات حدود ومؤسسات سيادية ونزاعات حدودية دائمة تتفجر دوريا.

وهي ذات أعلام ونشيد وطني وفولكلور وإعلام وبحث عن الجذور الرومانية في المغرب والفينيقية في بلاد الشام، وطموح إلى جذور اصطناعية غربية اوروبية في تركية، وهروب من الجذور الى اللحاء الجغرافي في ليبيا... إلى بروز فوارق اجتماعية ودينية ومذهبية واثنية في ما بينها وداخل كل منها (أكراد عرب - اكراد اتراك - أمازيغ - بيضان وتكرور... الخ) إلى تراجع هائل في الانتاج وعطالة في النمو، وتفريط في ادارة الثروة، ما جعلها جميعا على حافة استنفاد ما تبقى من ثرواتها الطبيعية، من خلال شغفها الشديد بالاستهلاك والتصدير، مع الهبوط الكبير في سعر ما تصدره «النفط» والارتفاع الكبير في سعر ما تستهلكه، اي تستورده، بالاضافة إلى اعباء خدمة الديون التي اصبحت في بعض الاقطار تستغرق الجزء الاكبر من الدخل القومي ما أدى إلى سعيها للإعفاء أو إعادة الجدولة او الحصول على تسهيلات مقابل تنازلات سياسية، تزيد من ضعف الموقع العربي في عملية التسوية، وفي المحصلة تراجع الدور الاقتصادي والمالي، بل انعدم هذ الدور، الذي كان منوطا بمفاصل النفط العربي، امام العملاق الثلاثي، صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي، والشركات المتعددة الجنسية الآخذة في التوسع والتمركز على ايقاع العولمة، وهيمنة الطرف الاميركي على مساراتها ومآلاتها، أخذا في اعتباره ضرورة اعاقة اي عملية تنموية شاملة وناجزة او ناجعة، او متبصرة بالخصوصيات السلالية والجهودية والثقافية والدينية لشعوبها والدول العربية والاسلامية، لم تضع مسألة الانتاج من بداية تأسيسها نصب عينيها، ولم تعتمده اساسا لإنجاز استقلالها وتعزيزه وحمايته وإدامته وتحصينه وحماية وحدتها الوطنية، ولم تختره مؤهلا للاستجابة لمقتضيات الوحدات الأوسع من قطرية، والتي قد يقتضيها التقدم واستقلال القرار واتساع الأفق والطموحات... الا ما كان من تجربة مصر الناصرية، التي قامت على اساس ان التقدم الاقتصادي والاجتماعي والسياسي والعسكري، هو الكفيل بجعل مصر نموذجا عربيا، وإحاطة اسرائيل، كعائق ومانع وسبب تخلف، بدول قوية تحد من توظيفها لقواها الذاتية والداعمة، في تثبت عوامل الاعاقة في المنطقة، وانقضاضها بين فترة واخرى، على المنجزات المتحققة... ولكن التجربة اتسمت بكثير من المبالغة، عندما خلطت عشوائيا بين الاشتراكية او موجبات العدالة وبين رفع معدلات النمو وتسريع ورفع وتأثر الانتاج وتوسيع دورته... وافتقرت إلى الحماية.

كانت مشروعات الوحدة او الاتحاد، بعض عناصر الحماية، ولكنها اسقطت ثم منعت، وكانت حرب يونيو/ حزيران 67 حاسمة في هذا المسار.

خمسون دولة تستورد جل ما تحتاج إليه، من الغذاء الى الدواء، مرورا بكل ما يخطر على البال والروح والجسد والعين والأذن، وتصدر كل ما تحتاج إليه اذا احتاج اليه الغرب، لم تطور اساليب انتاجها طبقا لاحتياجاتها وامكاناتها، واستوردت في ما استوردت التكنولوجيا الكاملة بشروط غربية، لتبقى مرهونة للبلد المنشأ، وطمحت بطاقات انتاجية تفيض عن حاجاتها المحلية... ما جعلها تحت رحمة السوق العالمية، مع عدم قدرتها على المنافسة حتى انتهت حركتها الانتاجية إلى إفلاس كامل.

هذا في الصناعة... أما المشروعات الزراعية فلم تكن محكومة بتقدير الجدوى والتكامل القطري او القومي او الاقليمي او القاري الخ... - تجربة الجزائر والتسيير الذاتي مثلا - حتى انتهينا إلى الوطن العربي- ليس اوطاننا الأخرى بأحسن حالا منه - تزيد مساحته على 14 مليون كلم2 بينما المساحة المزروعة فيه لا تزيد على المساحة المزروعة في فرنسا البالغة مساحتها نصف مليون كلم2، اي ما يعادل مساحة العراق الجائع، وحده، تقريبا.

والسودان - مثلا - الداخل او الذي ادخل في حرب تعطيل وإعاقة واستنزاف، منذ استقلاله وكان ينبغي ان يفعل المستحيل ليخرج منها، فإن الارقام فيه، تجعلنا في ذهول: من المساحة الى الخصوبة الى الثروات الطبيعية الهائلة والمتنوعة إلى المياه الموسمية والجوفية والنهرية... الخ.

بعد هذا كله، او قبل هذا كله، او معه. اليست الديمقراطية شرط الوحدة والنمو والتقدم؟ لعلنا نغامر اذا وافقنا على مستبد ليوحد... ولكننا نشترط ان يكون عادلا... ولكن كيف يكون المستبد عادلا؟... كان الاستبداد العثماني مانعا من قيام دولة ومن تبادل الثروة فضلا عن السلطة... ان الاستبداد او الجور، وهو يقوم على التجزئة، الظاهرة او المضمرة، والتفسيخ وعلى التنازل والتخلي عن الحق





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً