العدد 128 - السبت 11 يناير 2003م الموافق 08 ذي القعدة 1423هـ

تركيا: الماء والنار

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

من جديد تعود تركيا إلى واجهة الحوادث. وهناك اكثر من سبب لعودتها: اقتراب موعد تقديم رئيس فريق المفتشين هانز بليكس تقريره النهائي عن موضوع «اسلحة الدمار» في العراق، ومماطلة الاتحاد الاوروبي في قبول عضوية تركيا وعدم وضوح قراره النهائي الذي سيعاد بحثه بعد سنتين، واضطراب موقف حكومة «العدالة والتنمية» الاسلامية من احتمال الحرب على العراق، واشتداد الضغوط الاميركية على انقرة لقبول فتح قواعدها وجبهتها للقوات البرية واستخدامها معبرا للهجوم على العراق.

حكومة عبدالله غول في وضع لا تحسد عليه، فهي الخيار التركي المناسب في ظروف اقليمية غير مناسبة. فالناخب حدد خياره السياسي لعوامل داخلية جددت الثقة بطرف يرى فيه الشعب انه المنقذ من ازمة تعانق فيها ضياع الهوية مع ضعف الاقتصاد وتراجع الموقع والدور.

تركيا تمر في ازمة عميقة تطول تكوينها التاريخي وتوازنها السكاني الممزق على أكثر من اتجاه. فالحل القومي (الأتاتوركي العلماني) وصل إلى طريق مسدود، فهو فشل في تحديث الدولة ولم ينجح في نزع الهوية الاسلامية عن المجتمع. فتركيا الآن وبعد 80 سنة على انقلاب «الاتحاد والترقي» على السلطنة العثمانية والشريعة الاسلامية ليست في حال «اتحاد» ولم تتقدم وترتقي إلى مستوى يسمح لها بالتخلي عن هويتها التاريخية - الثقافية.

تركيا حائرة بين اوروبا المتكبرة التي ترفض قبول هوية غير متجانسة مع تاريخها وثقافتها، وبين محيطها الاسلامي - العربي المهدد بالاجتياح الاميركي - الاسرائيلي، وبين احتمال تفككها في حال نجح الزلزال السياسي في اعادة رسم خريطة الشرق الاوسط من جديد. ضياع الهوية يفسر إلى حد كبير الحيرة السياسية. فتركيا الآن نصف اوروبية ونصف اسلامية. نصفها الاول تسيطر عليه الدولة بقيادة المجلس العسكري. ونصفها الثاني تقوده الاحزاب الاسلامية التي تستمد قوتها من المجتمع الذي قاوم «التغريب» وتحمل العذابات والملاحقات من قبل فئة مارقة تحكمت بالسلطة والمال.

أكثر من مرة وصل الاسلاميون بغالبية كاسحة إلى البرلمان وقام المجلس العسكري بإسقاط خيار الناس الانتخابي واضعا النواب في السجون ومعيدا تركيا إلى عهد «محاكم التفتيش». وأكثر من مرة ينجح الاسلاميون في تشكيل حزب سياسي يعبر الناس من خلاله عن احتجاجهم ويقوم المجلس العسكري بحله قانونيا وملاحقة قياداته وإصدار قرارات تمنعهم من ممارسة حقوقهم المدنية سواء في العمل أو في الترشح للانتخابات.

المرة الاخيرة كانت مع نجم الدين أربكان فأسقطه المجلس العسكري بانقلاب على البرلمان وحل حزبه واعتقل وحُرم من حقوقه المدنية ولايزال الأمر ساري المفعول حتى الآن. أما تلميذه طيب رجب أردوغان فاعتقل بسبب قصيدة. لم يكن أردوغان على علم بأن الشعر ممنوع في الحكومات العسكرية. اعتقل بسبب قصيدة ليست من نظمه ألقاها في مناسبة مهرجان حزبي... وجُرد ايضا من حقوقه المدنية وحُرم من الترشح للانتخابات.

تلميذ... تلميذ أربكان كان الحظ من نصيبه فقاد الحملة الانتخابية الأخيرة واكتسح مقاعد البرلمان التركي بغالبية لا مثيل لها منذ قرابة 40 سنة. ولم يكن امام المجلس العسكري سوى القبول على مضض بضغوط قوية من الولايات المتحدة وسكوت مضجر من الاتحاد الاوروبي. وشكل عبداللّه غول حكومة اسلامية (أو شبه اسلامية) في ظروف شديدة التعقيد. اميركا تستعد لحرب دولية كبرى على العراق قد تهتز من تداعياتها اركان الدول المجاورة، وتحديدا تركيا، لذلك ضغطت على المجلس العسكري لأنها بحاجة إلى قوة سياسية تتمتع قراراتها بالثقة الشعبية. وافق المجلس العسكري على قبول ما كان يرفضه مراهنا على ثلاث نقاط: الاولى عدم انسجام اربكان مع تلميذه اردوغان واحتمال انفجار الخلاف بين اردوغان وتلميذه غول بسبب الزعامة وقيادة الحزب. الثانية دور الاتحاد الاوروبي في تأجيل قبول تركيا في السوق المشتركة الامر الذي يفرض على حكومة غول البحث عن بدائل عربية - اسلامية تثير غضب «اسرائيل» في المنطقة. الثالثة عدم تجاوب حزب «العدالة والتنمية» مع طلبات واشنطن بفتح حدود تركيا وقواعدها مقابل اغراءات مالية وصلت إلى 15 مليار دولار.

فشل المجلس العسكري في الرهان الاول (اندلاع الخلاف بين اردوغان وغول) ونجح في الثاني والثالث. اوروبا اجلت بحث عضوية تركيا في الاتحاد، وحزب «العدالة والتنمية» لم يتجاوب كما تريد واشنطن مع طلباتها بفتح حدودها من دون رقيب أو حسيب. وزاد الطين بلة قيام عبدالله غول بجولة على بعض العواصم العربية للبحث معها في ازمة المنطقة واحتمال انفجار الحرب ومستقبل الاقاليم السياسية في حال انهارت دولة العراق وتداعى كيانها. الخطوة الاخيرة اثارت غضب واشنطن فأطلقت سلسلة تصريحات صحافية تتهم سورية بإنتاج اسلحة كيماوية محرمة دوليا (باستثناء اسرائيل) وحركت المجلس العسكري في انقرة الذي بادر إلى تخويف حزب «العدالة والتنمية» محذرا اياه من تجاوز الخطوط الحمر وخرق الدستور العلماني (الاتاتوركي). وكل هذا حصل عشية حرب محتملة على العراق تطاول نتائجها المنطقة... وتركيا ليست بعيدة عن تداعياتها الاقليمية.

تركيا فعلا في أزمة، فهي من جديد تعود إلى واجهة الحوادث، وهناك أكثر من قرار على حكومة عبدالله غول ان تتخذه فهي إما ان تخضع لنصفها الاول (الدولة) وتقبل بتهديدات المجلس العسكري وإغراءات واشنطن وضغوطها، أو ان تنحاز لنصفها الثاني (المجتمع) متخلية عن الحكم لمصلحة حماية الهوية التاريخية من الانهيار والتفكك. وفي الخطوتين مشكلة: في الاولى على غول ان يشرب الماء ويسكت، وفي الثانية عليه ان يرمي نفسه في النار فلعل النار تسقط عليه بردا وسلاما

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 128 - السبت 11 يناير 2003م الموافق 08 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً