الوقوف عند نصوص خالد البسام كالوقوف تحديدا أمام ثنائية انسحبت على مجمل ما ألف وأعد وترجم حتى الآن، هذه الثنائية نحددها في: صدمة الحضارة صدمة الاحتكاك. وقد كرس البسام كل ما ألف تقريبا لبحث هذه المسألة، في رحلة بحثية وكتابية شائقة بدأت في العام 1986 وأثمرت 2033 صفحة، مستخدما فيها، وموظفا ومستثمرا لمواد وثائقية وصور فوتوغرافية تجاوزت الـ 520 وثيقة وصورة.
وتؤشر معظم هذه الإصدارات إلى طريقة مغايرة يعالج بها البسام مسائل التاريخ، وهو بهذا الصنيع قد نجا بنفسه من جبروت التقاليد الخاصة بالبحث التأريخي، ليقيم بناءه الخاص المعتمد على أسلوب القص - كانت بدايات البسام في الكتابة متجهة صوب كتابة القصص القصيرة وهو ما اتكأ عليه لاحقا -، وعلى تقديم المادة ببساطة أسلوبية، ثم اختيار الموضوعات التي تمثل مزيجا من الحفر في ذاكرة التاريخ المنسية أو البسيطة أو حتى الطريفة قصد الوقوف على الظروف الأولية المؤسسة والدافعة لانبثاق مظاهر حديثة غريبة في الحياة المعاصرة وقتها - فالمساحة الزمنية التي يتحرك البسام فيها بحثا وتنقيبا تتموقع تاريخيا في النصف الأول من القرن الماضي.
ولو أردنا رصدا لمجمل التشعبات التي يتحرك عمل البسام في إطارها فسنجد بعض السمات الخاصة التي يمكن تحديدها في مجموعة من النقاط من بينها:
إن البسام يعمل بشروط تعريفية منطلقا من بوابة القص الأداة المثلى في اللحظة الثقافية الراهنة، لما يحتويه القص والسرد من جاذبية ومركزية بوصفه خير موصل للمراد، وهذه السمة تكاد تكون منسجمة إلى أبعد الحدود من مؤلف لآخر بما يقلل نوعا ما من إمكانات التلوين والتنويع لاستثمار الممكنات خدمة للغرض التشويقي ومن قبله الغرض الإيصالي. هذا على رغم كون كتب البسام ممتعة بحق من زاوية القراءة، لصياغاته الموفقة - فكرة السرد - والتتابع المتماسك، وفي نصوص تبعد التعقيد بوجه عام.
ملمح آخر يتجسد في الاحتفاء بالهامشي أو الواقع خارج بؤرة التركيز والمقاربة مثل الحكايات الخاصة بالراديو والفونوغراف أو خيل إبليس.
كما يجسد مفهوم الآخرية مرتكزا أساسيا، وفسحة كبيرة بذل في سبيلها الكثير، فباتت مفردات من قبيل الصدمة والدهشة والفشل محورا ثنائي الأبعاد متجليا في الإيحاء من جهة أو في التصريح من الجهة الأخرى بما يكشف عن البنى العقلية الكامنة وراء التمثيلات. وكانت الدلالة المألوفة في تمثيل الآخر - بحسب معظم ما قدمه البسام - تصويره بصفته منقوصا متخلفا، وهي الصورة النمطية المألوفة، والممتدة تاريخيا في كل الثقافات والمجتمعات من دون استثناء، بما هي عملية ارتياب، أو استهزاء وكل ما يقع بين هاتين النقطتين المتباعدتين.
كما لم يكن مرتكز المؤلفات منصبة بالكامل على البحرين بل جل أقطار الخليج العربي كان لها نصيب خاصة في القصص التي تنطوي تحت ما يعرف بالبدايات. فالنصوص التي قدمها البسام مجتمعة لا تحكي البدايات - بداية المقاومة للبدع الجديدة، أو التبشير، أو الاستعمار - فحسب، بل تتجلى العملية في أبهى صورها حين نقرأ التاريخ البسيط غير الملتفت إليه.
لقد بذل البسام بسخاء صوب تكوين مشروعه الخاص، فكنا في مواجهة ثنائية تكمل بعضها البعض : النص التاريخ - النص السياق، الثانية في استراتيجية الإيصال والأولى تاريخ المنطقة في القرن الجاري فالقضايا العرضية لا مكان لها وفرصة التفصيلات معدومة طالما لم تتعلق بعمق بالحادثة المتناولة.
وكما أسلفنا فإن الذي نلمسه في مؤلفاته مجتمعة أنها اعتمدت أشكالا بسيطة من السرد، أو لنقل طلائع بذور للقص بما يؤدي غرضا تعليما أو تثقيفيا بوجه عام. لذلك فإن الممارسة الخطابية في جل هذه التجربة بانحناءاتها وتعرجاتها المختلفة تنحو هذا الاتجاه.
والقص لا يحضر من مجرد إعادة قراءة ما تحمله الوثائق، أو تؤديه الصور من دلالات، بل ينسحب الأمر كذلك على فعل الترجمة الذي يقوم به البسام، لاسيما ترجمته للتقارير الخاصة بعدد من المبشرين الذين عملوا في المنطقة، وتقديمها بوصفها حاملة لشذرات من التاريخ والجغرافيا، وضامة لانطباع هذا الآخر عن السكان المحليين، أو ما يقع في صلب التوجهات التبشيرية أو النتائج المتحققة من العمل الطبي الإنساني ثم الديني الهدف الأساسي الذي أتى بهؤلاء إلى المنطقة.
ومن الملامح الأساسية التي شكلت هيئة هذا المشروع المتواتر عناية الكاتب بسير الرجال المعنيون، وبالأدوار التي لعبوها، ومنهم نفر من العرب شدوا الرحال إلى البحرين ليقيموا فيها ، أبدوا استعدادا كبيرا للانخراط في هموم البحرين الوطنية وفي رفض الأجنبي، ما أفضى بهم إلى الترحيل خارج البحرين من قبل هذا المقيم السياسي أو ذاك، والذي تلمس في وجودهم الخطر الحقيقي، والتسبب بحال عدم الاستقرار المطلوبة... وهي - عموما - رسالة ولعلها تعطي تصور هؤلاء وأدوارهم الذي لم يقف عند حدود الأداء الوظيفي، بل تجاوزه إلى التفاعل بحب وتفان مع أهالي البحرين أمام ظروف الموضوعية التي ألقت بظلال ثقيلة على مناشط الحياة والتنوير والتعليم ومقاومة الأجنبي المتحكم.
وتأسيسا على ما سبق تمثل الكتب المؤلفة مجتمعة بنية تركيبية وأغراضية واحدة، تروم توفير قاعدة بناء واحدة، تكون بمثابة الدليل المتشعب المواقع والخرائط لتقديم مادة للقارئ يسكتشف من خلالها أو عبرها تاريخ المنطقة.
وانطلاقا من كون الكتب محاطة بأسلوبية موحدة على رغم الفارق المفترض بين الموضوعات والفارق الزمني الفاصل بين كتاب وآخر. وكأن السياق الإنتاجي هو نفسه الذي سيطر دوما، فإن كتابه الجديد «يا زمان الخليج» لا ينفك يبتعد عن التصورات السابقة - هذا إذا انصب حديثنا عن كتبه التاريخية - مع الفارق أن البسام هنا يشرق ويغرب مكانا، ولم يكتف برصد الحوادث والقصص داخل البحرين أو في الكويت، بل ابتعد قليلا، ومن السمات العامة المرصودة آنفا، نقرأ قصص سلطان زنجبار في زيارته للغرب، ووقع أضواء الكشافات الموجودة في الطراد الروسي على أهالي الكويت، ورسائل القراء البحرينين للمجلات والصحافة العربية قبل ظهور الصحافة في البحرين، وحكاية السكك الحديد في السعودية، وحكايات الطرب البحريني، وظروف ولادة السينما، ومشكلات الزواج في الكويت، وعن الشاعر العماني الذي طبع ديوانه الشعري في اليابان، وقصة تهريب الذهب من الخليج إلى الهند... وغير ذلك من قصص تدور في الفترة الزمنية التي حددناه سالفا، وتعطي قارئها تصورات مختلفة عن زمان الوصل بالخليج قبل التدفق النفطي.
خالد البسام. يا زمان الخليج. لندن: دار الساقي، ٍّ1 ، 2002، 174 صفحة
العدد 127 - الجمعة 10 يناير 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1423هـ