يحظى المستشرقون باحترام شعوبهم لأدائهم هذه الخدمة الجليلة من أجل وطنهم ولتسهيل السيطرة على الشرق الحاوي كنوز الطبيعة. لماذا؟
وفي المقابل، يقابل المستغربون بالامتهان لأدائهم هذا الدور، ويكفي الشخص أن يوصف بأنه مستغرب حتى يسقط من عيون أهل مجتمعه. لماذا ثانية؟
(لماذا) بصيغة أخرى: لماذا يحترم الأول ويمتهن الثاني؟ وهل الأمر متعلق بالمستشرق والمستغرب أم أنه متعلق بمجتمعاتهما؟
من حق المستشرق أن يحترم في وطنه ومن قبل حكومته التي أرسلته ليكون عينها الباحثة في الشرق والمنقبة عن كل ما من شأنه أن يخدم هدفها في استعمار الشرق والاستئثار بخيراته، فيعيش مع البدو أحيانا ومع الحضر أخرى، يتعرف على الشيخ والحاكم والمزارع، يدرس العلم، يرتحل من مكان إلى آخر، يدون كل شيء ، كل صغيرة وكبيرة، يؤلف موسوعة أو على الأقل كتابا، يصنع جسرا معرفيا لولاه لتاه جنود قومه وهم في طريقهم نحو جنان الشرق. يستحق الاحترام من بني قومه بلا شك.
يرى المستشرق أن حضارته أرقى من حضارة الشرق، وهو لذلك لا يسعى لتغيير ثقافة أمته أو لمسخ هويتها، لا يكون متأثرا، متنازلا عن إرثه الثقافي والمعرفي لصالح ثقافة شرقية دخيلة وافدة، يتناول الحدث الشرقي بنظرة تحليلية غربية قد تكون محايدة حينا وقد تكون عنصرية حينا آخر، لا يصنع من ثقافته الغربية هجينا امتزج فيه حابل الشرق بنابل الغرب وصار لا يُعرف أمستشرق هو أم مستغرب؟
يبقى المستشرق الغربي غربيا، وتبقى أفكاره وعقائده غربية، وإن درس وتعلم وهوى الشرق، تبقى عيونه غربية، أحكامه ومسبقاته الثقافية غربية، فيبقى عنده الغرب غربا والشرق شرقا. ولذلك فهو يستحق أن يحظى بوسام احترام أمته.
أما المستغرب فهو باحث عن حضارة ترضعه بعد أن فقد حنان الشرق واستشعر دونيته، لم يستسغ أن يعيش في ظل حضارة تسعى إلى النهوض ولذا آثر الانضمام إلى حضارة ناهضة، لا يحب أن يتعب نفسه من أجل المساهمة في قيام أمته، بل يحب أن يريحها في بحبوحة حضارة توفر له رغد العيش وحلاوة الدنيا.
ينظر المستغرب إلى حضارته نظرة دونية، ويرى القوة والاستعلاء والمكانة في حضارة الغرب، ولذا يحاول الانتساب إلى حضارة الغرب ولو بفكره ورؤاه وإن لم يستطع أن ينتمي إليها بأصله وبياض بشرته وزرقة عيونه.
يذهب المستغرب إلى دراسة الغرب وهو متخل سلفا عن حضارة الشرق، فيرى الغرب بعيون غربية، وحتى الشرق لا يرتضيه لأنه أصبح يراه بالعيون الغربية نفسها.
فإذا كان المستشرق يفتح باب الخيرات لبني قومه، ويمهد الطريق لفائدة احتلال الأرض وما فيها وما تحتها، فإن المستغرب يسعى لفتح عقول بني قومه ويسهل عملية احتلالها من قبل الغرب الذي وجد في المستغرب ضالته التي يصطاد بها عقول الشرق.
إن الدور الذي يقوم به المستغربون لربما يكون أخطر من دور المستشرقين، فالمستشرق تكتشفه من لون شعره وزرقة عينه، أما المستغرب فهو نسخة منك ، يحدثك كما يحدثك أخوك، فتسمع منه وتظن أنه آخذ بيدك حيث تريد، وتظن أنه يعيش همك وهم شرقك، وما هو في الحقيقة إلا متسلل لعقلك ورؤاك في شكل حمل وديع يحمل في سريرته ذئبا يتلذذ بالتهام كل ما يحويه فكرك لتصبح فارغا ويأتيك بفكر غربي معلب. وهل بعد هذا يستحق المستغرب أن يحترم؟
إن المجتمع يعرف من يحترم ومن يمتهن، وإذا واجه شخصا قد باع نفسه للغرب وحاول أن يحول فكر مجتمعه إلى الغرب أيضا فإنه بذلك يعرض ثقافة المجتمع لخطر كبير لا بد من صده والتعامل معه بحزم وقوة، ولذا فإن امتهان المجتمع لمن تغرب في محله، وليس العيب في المجتمع وإنما فيمن باع فكره لغيره.
هل نحتاج إلى دراسة الغرب؟ نعم، وذلك للتعرف على سلبياته وايجابياته فنترك الأولى ونأخذ الثانية، ولكن يجب أن ندرس الغرب بعيون شرقية، مؤمنة بفكرها، غير متزلزلة ولا متأثرة بحضارة الغرب، نحتاج إلى من يدرس الغرب وهو يؤمن بالشرق، وإن وجد مثل هذا الشخص، فهو جدير بأن يحترم كما يحترم الغربيون مستشرقيهم
العدد 127 - الجمعة 10 يناير 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1423هـ