العدد 127 - الجمعة 10 يناير 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1423هـ

أين نقد العمارة؟... غيابه سلب الجمال من مدننا وعمراننا

أحمد عبدالرحمن الجودر comments [at] alwasatnews.com

كتب الاستاذ ماهر حسن مقالا طويلا تحت عنوان «التفرد الجمالي في منارة جامع القضيبية» في العدد رقم 119 من «الوسط» والصادر في يوم الجمعة 3 يناير/كانون الثاني 2003. في البدء احيي الاستاذ واحيي صحيفة «الوسط» على التصدي لموضوع الكتابة عن موضوع العمارة وجماليتها في بيئتنا المبنية التي كثيرا ما نغفل عنها ولاننتبه إليها. مع اننا نواجه هذه المباني يوميا في حياتنا، سكوننا وحركتنا، ونقوم بانشطتنا من خلالها.

صحيح هناك حركة نشطة نسبيا في نقد الاعمال المسرحية او الاعمال الادبية او الفنية و التشكيلية او السينمائية، بينما لا نجد حركة نقدية في المقابل إلى «ام الفنون» العمارة، بل صمت مطبق تجاة التعبير عن احاسيسنا نحوها، وهي القائمة في حياتنا دوما، وتحاصرنا من كل حدب وصوب. نستطيع ان نعرض عن اغنية، فيلم، رواية، او مسرحية، لكن اين نفر من العمارة؟ ألا تستحق منا اذا جهدا في نقدها؟

شغلني هاجس غياب النقد المعماري عندنا كثيرا. فالكتابة النقدية في العمارة، على اهميتها و ضرورتها لتأصيل وتطوير الاعمال المعمارية، شحيحة ان لم تكن معدومة في عالمنا العربي. وكنت اعزو هذا الغياب، إلى غياب الاعمال المعمارية المتميزة نفسها. ان حضور هذه الاعمال شرط موضوعي لاستثارة حركة نقدية تتبعها وتحللها وترصد مسيرتها وتتنبأ بمستقبل الاعمال المعمارية.

لكن تستمر حركة البناء وتتوسع اعمالها الشاخصة في حياتنا، والعمارة وفنها امران مغيبان، غائبان عن الكثير مما ينتجه قطاع البناء والتشييد من مشروعات. هناك اعمال معمارية مميزة ومهندسون مبدعون لكن اعمالهم تضيع وسط هذا الركام من الممجوج والمبتذل. ونتساءل من المسئول عن هذه المباني الجامدة، غير المنتمية، القبيحة، الغرائبية ومن فرضها علينا؟ وهكذا فإن الواقع صار من جديد، يعيد ترتيب الاشياء، فما احوجنا إلى النقد المعماري، او بالأحرى نقد الاعمال السائدة و تحليل القوى والممارسات والاختلالات التي تفرزها وتنتجها، حتى نصحح فكرنا المعماري وتشكيله المادي لواقعنا.

العمارة ليست فنا مجردا خالصا في معزل عن مصالح الناس وتفاعلاتهم، تسعى إلى تلبية احتياجاتنا الوظيفية، تتطلع إلى ابداع جمالي يستند على الذاكرة الجمعية للامة وعلى الكفاءة الاقتصادية والعملية، ومع ذلك هي فضّاحة لدواخلنا وتعكس بصدق ذواتنا ورؤيتنا للحياة والقيم التي نعتز بها. فقد يتشدق الواحد بالتواضع والبساطة، لكن تكشف اختياراته وتفضيلاته المعمارية صدق او زيف زعمه. وسلطتها ممتدة حتى إلى كشف دواخل المؤسسات والدول. فكم في خطاب هؤلاء من دعاوى الانفتاح او الشفافية والتعددية، لكن عمارتها في الحقيقة، تكذبها فهي لا ترمز ولا تمثل هذه القيم، بل تقول قولا مغايرا.

وبحيث اننا جميعا نسكن، نعمل، نلعب، نلهو، نتعبد، ننام، نبيع، نشتري، نتعلم، نتعالج، نسافر، وما نأتي من غيرها من افعال، انما نمارسها من خلال مبنى، فنملك باعتبارنا مستخدمين ومستعملين لهذه المباني مهما تكن خلفياتنا العلمية حق التعبير عن معايشتنا لهذه المباني ومدى نجاحها وفاعليتها في تحقيق اغراضها لنا. فأهلا بالنقد المعماري، سواء جاء من المستخدم المباشر للمباني من معايشته وخبراته المستمدة من الامور العملية والتشغيلية لها. وأهلا به ايضا من الفنانين والمختصين المهتمين بالتفاعل بين ايحاءات العمارة ورمزيتها وتفاعلاتها الاجتماعية والاقتصادية وجوانبها الهندسية المهنية والتقنية. جمال العمارة في ثقافتنا العربية الاسلامية، وهي تختلف عن القيم الجمالية الغربية، فعمارتنا، ينبع جمالها من داخلها الباطني وليس مظهرا خارجيا يسقط الجمال عليها. ولا ينفصل جمالها عن تمسكها بمبادئنا الاخلاقية وقيمنا الشرعية. فالمبنى الذي يتعدى او يجرح خصوصية الجيران، او يتعدى على البيئة ليس جميلا فضلا عن حرمته. لذلك اذا رأينا مبنى مدرسة مثلا كيف نراها جميلة؟ ونحن نعلم ان صدى الصوت في فصولها مزعجا، كما ان نوافذها تشتت اذهان الطلبة، تكييفها لا يعمل بكفاءة!. لن تكون هذه المدرسة جميلة حتى تنجح من داخلها في حلول ناجعة لوظائفها.

التوحيد لب العقيدة الاسلامية، وهي قيمة عبرت عنها عمارة المساجد ومآذنها خلال العصور وعبر الثقافات المتعددة في شتى اصقاع الارض. فلا ترمز المنارة إلى المسجد رمزا دلاليا مجردا فقط، وانما شاهدة على عقيدة التوحيد وناطقة به. والارتجال في هندستها قفزا فوق تراكمات تصميماتها وقفزا فوق العمل على استمراريتها مشكلة كبيرة علينا العمل على الحد منها وعلاجها جذريا.

اعود بعد هذا التقديم المقتضب عن اهمية النقد المعماري وماهية العمارة، إلى المقال بخصوص منارة جامع القضيبية. نقدر اولا الجهد والاجتهاد للكاتب، ونقدر له السبق في طرح موضوع معماري على صحيفة يومية عامة، واسهابه في شرح تفاصيل كثيرة عن تركيب المنارة وزخرفة المسجد ومحاريبه، لكنها جاءت قفزا على تأصيل هذه الادخالات التي ذكرها إلى عمارة المسجد ومدى شرعيتها الفنية، حتى خلص إلى تقرير ان جامع القضيبية من اجمل تجليات العمارة الاسلامية في البحرين.

نسلّم ان الاحساس بالجمال امر نسبي، ومتفاوت بين الناس يمليه اختلاف اذواقهم وخلفياتهم المعرفية وثقافتهم، وهم احرار في ما يعتقدون، اي المباني اكثر جمالا، او اصالة، او حداثة، لكن اعتقد جازما، عندما يعلنون هذا الرأي بشكل يتجاوز التعبير عن الرأي الشخصي، وبلغة تقريرية في خطاب عام عن جماليات العمارة، فإن عليهم ان يتقدموا باثباتهم على ما يدعون.

اختلف في قراءة عمارة مسجد القضيبية، فانا لا ارى الجمال فيه، لا هو ولا في الكثير من الجوامع القائمة بقدر ما اقرأ فيها حرص القيادة السياسية وعنايتها بتعمير المساجد والصرف عليها بكرم وبذخ، وكذلك قيام الميسورين من اهل الخير بالاهتمام بها وتعميرها. لكن كثيرا ما ينتهي امر وضع تصميماتها إلى غير ذوي الاختصاص في تصميم المساجد، فتأتي تصميماتها باذخة، ضخمة بالنسبة إلى القياس الانساني، وناشزة عن الاصول الفنية المتراكمة من عمارة المساجد.

المنارة تطورت في المسجد عبر تراكم من الحضارات والممالك الاسلامية، بحيث صارت لها هوية ورمزا واضحا. هيئة المنارة توقيع فني، في سمتها وتركيب اجزائها يعلن عن جغرافية مكانها وتقنية بنائها، وقد طور الرواد من المهندسين المعمارين المعاصرين عبر العالم الاسلامي خطط المساجد والمآذن المعاصرة في محلياتهم باستلهام تراثهم وتواصلهم، مع ذاكرتهم الجمعية. نشير في هذا الخصوص إلى اعمال الدكتور محمد مكية، اعمال المهندس عبدالواحد الوكيل واعمال المهندس راسم بدران.

نفتقد مثل هذه الجهود على ساحتنا، والامل معقود على مهندسينا المعماريين الشباب في الاهتمام ايضا بهذا الجانب من حيث الغوص في الذاكرة الجمعية وتوثيق العمران بكل جوانبه الفنية وعلائقه بالمجتمع وسيرورة تشكل العمران وانساقه. ليكون القاعدة التي ننطلق منها إلى عمارة معاصرة منتمية، واعدة بالتفرد بالجمال.

كانت البحرين غنية في مساجدها، في مدنها وقراها على السواء، ولها خصائصها المميزة من بساطة شديدة وحميمية في تصميم المسجد وخطته، انعكست على مقياسه وطرق تشييده. كما ان بناء بعض المساجد يرجع إلى فترات تاريخية قديمة، لكن الجهات الراعية للمساجد خلال العقود الثلاثة الماضية جهدت على هدم هذه المساجد واعادت بناءها من جديد كان الاولى الحفاظ على هذه المساجد بترميمها وتحسينها لاستيعاب متطلبات التكييف والتوسع من دون الاخلال بهوية عمارتها حتى لا تأتي مساجدنا مبتسرة ومنقطعة عن استمرارية هويتها المكانية.

في الحقيقة يشكل موقع جامع القضيبية، وموقع جامع الشيخ عيسى بن علي في وسط المحرق، ايضا، من اهم الميادين المهمة في البحرين وتاريخها المعاصر، لارتباطهما بقصور الحكم في البلاد في فترة من الفترات. وكم تم في هذه الساحات من احتفالات وطنية وقرارات تاريخية، وتفاعلات، اي كانت، صبت جميعها في تشكيل تاريخ البحرين الحديث، وتطور الادارة واساليب الحكم وتطور البلاد. ما يقضي بالمحافظة الاثرية على هذه الساحات والميادين، ونعني المحافظة الامينة على ما تضمه هذه الميادين من مبان ومساجد من دون تغيير وطمس معالمها عن الاجيال المقبلة. فنرى ان المساجد في نصها الجديد شكلت اقحاما فجا على سياق العمران وحميميته وتعدت على تاريخيته في هذه الميادين. لكنني اتمنى بعد فترة، تطول او تقصر، عندما يعاد النظر مستقبلا إلى هذين الجامعين، ان يأخذ القائمون على هذا الامر قرارا شجاعا بتصحيح وضعهما، اي هدمهما واعادة بنائهما من جديد وفق مخططاتهما الاصلية كما امر ببنائهما شيوخنا الحكام الكرام رحمهم الله رحمة واسعة، وكما شيدهما اساتذتنا البناءون المبدعون.

حسنا فعل القائمون على ادارة شئون المساجد بالدفع إلى تكوين اللجان من اهالي المسجد بمتابعة الامور المتعلقة بمسجدهم وصيانته العاجلة، خطوة على المسار الصحيح، نتمنى نجاح هذه التجارب، وتجذرها واستحقاق التوسع في صلاحيتها، بما يسمح لها لتصب في، وتعزز من، جهود محاولة تحديد الملامح المعمارية ومعايير التصميم العمراني للمساجد. ولا يفوتنا هنا الاشادة بمجموعة من اعمال وتصميمات المساجد والاضرحة والجوامع المميزة التي قام بها المهندس العراقي الاخ يوسف داود الصايغ، والمقيم في البحرين. وهي مساجد متناثرة في ارجاء واسعة من البحرين، قامت ببناء معظمها ادارة الاوقاف الجعفرية كما قامت عائلة كانو ببناء بعضها الآخر. وعلى سبيل المثال لهذه الاعمال جامع الصادق بالقفول، وضريح الشيخ حسين العصفور بالشاخورة، ومسجد الشيخ ميثم بأم الحصم ومسجد مؤمن بالمنامة وجامع مدينة حمد وبعض مساجدها الصغيرة. والمهندس الصايغ مسيحي الديانة لكنه حتما اسلامي الثقافة والفن في اعماله، وخدم فن تصميم المسجد وتخطيطه في البحرين بشكل لم يقم به مهندس آخر. وهذه نفحة من تجليات التعايش والتسامح بين اهل الاديان السماوية في المجتمعات العربية المسلمة

العدد 127 - الجمعة 10 يناير 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:39 م

      أين؟

      تحية لك أستاذ أحمد الجودر، بإختصار شديد..
      إذا عرفنا سبب وجود تعليق واحد بعد ظ،ظ، عامًا من نشر المقال، سنعرف أين نقد العمارة في البحرين والمجتمع الخليجي والعربي.

اقرأ ايضاً