هناك معادلة واضحة انطبقت تماما على مرحلة ما بعد التصويت على الميثاق، حين برزت في الساحة قوى وشخصيات مجتمعية ضاغطة بخطابها السياسي الهادف إلى رفع السقف أكثر فأكثر، وعدم الاستكانة لما هو كائن. وقفزت في الساحة أيضا قوى وشخصيات مجتمعية مهادنة بخطابها السياسي المفعم بالتبريرية وبتخويف المجتمع الضاغط بضرورة مراعاة مشاعر أصحاب القرار، وعدم الاستمرار في الضغط على المشروع السلمي العلني، حتى لا تتم التراجعات والعودة إلى المربع الأول.
والمثال الواضح الذي يحضرني هنا هو المجادلات التي جرت في الصحافة أو في المنتديات والندوات الجماهيرية في شأن حق الاعتراف بالأحزاب السياسية الموجودة فعليا على أرض الواقع السياسي والنضالي منذ الخمسينات من القرن الماضي، إذ برزت قوى وشخصيات لم تتهاون ولم تتراجع وأصرت على إيجاد مخرج قانوني لعمل هذه التنظيمات، واستمرت في ضغطها المعنوي من المقالات المتكررة أو المناظرات التلفزيونية والجماهيرية أو في اللقاءات الرسمية، وكانت تواجه برفض تارة وتهديد تارة أخرى عبر تصريحات رسمية أو بيانات أو إشارات. ولكن على رغم ذلك واصلت في ضغطها التراكمي وتمكنت من خلال لغتها السياسية الحضارية السلمية الهادفة المنطقية أن تخلق حال شعبية قبلت معنويا ونفسيا وسياسيا بوجود تنظيمات سياسية في ظل هجمة تبريرية عبر الصحف والمقابلات التي كانت تمارس السياسة غير الضاغطة السابقة ذاتها، فتارة كانت تبرر هذا الرفض من منطلق خصوصية مجتمعنا، وتارة بأن الحزبية تشق الصف الوطني والأسرة الواحدة، وتارة تذكرنا بأسطوانة الرجوع إلى المربع الأول وبضرورة مراعاة مشاعر أصحاب القرار وبضرورة التأني إلى حين تعزيز الثقة المتبادلة. وفي كل هذه الحالات كانت التبريرات تعكس رغبة ولغة الخطاب المقبول لدى الحكم فقط، وحتى حينما بدأت هذه القوى المجتمعية الضاغطة وشخصياتنا تبحث عن مخارج تمنع الحرج لدى الحكم على الصعيد الاقليمي الخليجي، ومارست مبدأ (السياسة فن الممكن) لتحقيق مبدئها الأساسي (السياسة فن النتيجة) للوصول إلى الهدف الرئيسي وخرجت بفكرة العمل السياسي ضمن إطار الجمعيات السياسية، برزت أصوات تستصغر هذه النقلة النوعية وتعاملت معها بتبريرات (مشاغبة) بأنها خطوة تراجعية لمطلبها (الثوري) بضرورة وجود أحزاب فعلية، وعندها تناسب عند هذه اللحظة التاريخية مقولاتها بالسياسة فن الممكن ورفعت شعارات تعجيزية حقيقية، ولكن حينما استمرت القافلة في سيرها وتراكمت التجربة والواقع السياسي المنظم، تراكما وراء تراكم، وتم اشهار أو ل جمعية سياسية علنية معترف بها (جمعية العمل الوطني الديمقراطي)، سكتت التبريرات كافة وانطفأت مقولات (السياسة فن الممكن) و(الخصوصية البحرينية) و(التدرج وبناء الثقة) و(الظروف لغاية الآن غير مهيئة) واستفاد الجميع من (السياسة فن النتيجة) وبدأ المعارضون للجمعيات السياسية قبل غيرهم في تأسيس جمعياتهم السياسية التي انفرزت في الساحة بحسب الأطياف السياسية وبحسب الاتجاهات والمواقف المنطلقة من روح المعارضة أو أحزاب مخزنية وإدارية بحسب مصطلح الخطاب السياسي المغربي للأحزاب الحكومية.
عند هذه المحطة لا بد أن نتوقف قليلا ونصارح، وعلى الجميع أن يسترجع موقفه الذي كان يطرحه في الصحف أو في الندوات التلفزيونية أو الجماهيرية (عندما كان التلفاز يسمح باستضافة جميع الشخصيات المعارضة)، وليتذكر تبريراته ودفوعاته الرافضة لأنشاء التنظيمات السياسية وبالتالي كان يسهم في بقاء الواقع السياسي كما كان، بل كان خطابه يخدمه ويضعه في مصاف المرضّي عنهم لدى الحكم، وهو بالتالي لم يكن عامل ضغط، لم يكن معارضا لما هو كائن، ولم يكن يصر على ثوابت سياسية يعمل من أجل تحقيقها ضمن الممكن، ولكن عبر الوصول إلى النتيجة المنشودة، إلى أن وصلنا إلى المحطة التالية إذ تراجعت التصريحات والتهديدات والتبريرات وتم الاعتراف بالقوى السياسية ولو بشكل خجول عبر السماح لها بالعمل تحت وجهات الجمعيات السياسية، ولم يقل احد بأن سبب هذا التحول الايجابي في الواقع والانتقال من الممكن أو ما هو كائن إلى جزء من ما ينبغي أن يكون عليه الواقع السياسي هو ضغط ومعارضة القوى والشخصيات التي لم تقتنع (بالسياسة فن الممكن) وإنما كانت تعمل ضمن (السياسة فن النتيجة).
والمعادلة ذاتها برزت في المحطة الثالثة حينما حاول الحكم أن يهمش دور هذه الجمعيات السياسية عبر صدور مرسوم بقانون مجلس الشورى والنواب في مادته (22) التي حظرت على الجمعيات والاتحادات ومنها الجمعيات السياسية بدعم المترشحين، وبرز الضغط المجتمعي السياسي مرة أخرى لدى معظم الجمعيات السياسية، اللهم إلا البعض منها التي لم تنطلق بكلمة عن حقها في العمل السياسي وبرر ممثلوها بذات التبريرات التساومية والمهادنة لارضاء اصحاب القرار.
وكانت محاولة الحكم عنذ هذه المحطة هجومية إذ خرجت علينا تصريحات كشفت عن نوايا غير مبنية على الثقة وحسن النية التي تعاملت القوى السياسية على أرضيتها مع الحكم في مرحلة الأيام القليلة التي سبقت التصويت على الميثاق وتم التصريح الرسمي لتطمين المعارضة بالغموض الموجود في فقرة صلاحيات المجلسين، وانتهى بالتوافق على المخرج الأنسب لفعل ونشاط القوى السياسية علنا وشرعيا، بل كانت تؤكد ما تؤمن بها المعارضة حاليا بأن السياسة لا تعتمد على النوايا الحسنة والكلام الشفوي، بل الواقع السياسي بحاجة إلى توثيق رسمي قانوني وأمام هكذا تصريحات - من مثل - أن الجمعيات لم يصرح لها باعتبارها جمعيات سياسية ومقولات الانشغال والاشتغال، انفرزت مرة أخرى قوى الضغط المؤمنة بسياسة فن النتيجة عن قوى بدأت تتراجع إلى سياسة فن الممكن، وكان الفرز هذه المرة بين لغتين في الخطاب السياسي، أولها التي رفعت صوتها بكلمة (لا) لهذا التهميش ومن دون التراجع عن الموقف الرسمي هذا (فلن) نتقدم، وثانيها رفعت صوتها (بنعم) للمشاركة (ولكن) بتخفظ على هذه القوانين.
ولنتأمل في مدى تأثير قوى تقول بملء الفم (لا) فقط، وبين قوى تقول (لا) بتحفظ وتواصل في مواقفها السابقة، فأية معارضة تكون هي المرجحة كعامل ضغط حقيقي لخلق تحول نوعي جديد؟
أن الجمعيات الأربع التي أعلنت المقاطعة هي التي أسهمت في تغيير الموقف الرسمي تجاه الاعتراف بحق التنظيمات السياسية بالعمل السياسي ولولا رفضها ومعارضتها - حتى وإن أفترضنا وجود ضغط ونصائح خارجية لضرورة التراجع وإلغاء المادة (22) من قانون مجلسي الشورى والنواب - لما بادر الحكم في تلبية هذا المطلب ولو أفترضنا أن كل الجمعيات وافقت على المشاركة في الانتخابات النيابية ولبقيت المادة القانونية موجودة وأن أغمضت العيون وأهملت ولم تطبق وتنفذ (وهذا ما حصل فعلا في الواقع العملي وهو يعكس مدى لا إنعكاس في القانون لمستوى نضج وتطور الواقع السياسي ولا تلبية لاحتياجات ومتطلبات المجتمع السياسي!)، لو أفترضنا ذلك لما تراجع الحكم ولما تم إلغاء المادة القانونية المذكورة، ولبقيت موجودة تستخدم عند الحاجة إليها، وتغض الطرف عند استخدامها إذا ما كانت الأمور تسير ضمن ما يرغبه الحكم!
وعليه فإن وجود قوى مجتمعية ضاغطة غير تبريرية وغير مهادنة ولا تنتظر فوائد آنية مباشرة ذاتية لها، ومصرة على تحقيق النتيجة المنشودة ومستوعبة آلية الصراع السياسي والعقليات السائدة وغيرها من الموروثات التقليدية، لما حقق الجميع الفوز وتمكن المجتمع من الانتقال إلى محطة نوعية جديدة للمرة الأولى في تاريخه الحديث (ما عدا فترة الأعتراف بهيئة الاتحاد الوطني في الخمسينات) يعترف الحكم بالتنظيمات السياسية العلنية المشهرة رسميا، على رغم أنه مازال يوصمها بالجمعيات الوطنية، وهو تطور ايجابي من رفض مطلق لها إلى إشهارها ضمن قانون الجمعيات إلى تسميتها بالجمعيات العاملة في الشأن العام إلى الجمعيات الوطنية التي لها الحق في دعم المرشحين وإصدار برامجها الانتخابية إلى تسميتها بالجمعيات السياسية في بعض مراسيم بقوانين التي صدرت أثناء الحملات الانتخابية.
ألم تكن سياسة فن النتيجة هي التي أوصلتنا إلى هذه المحطة؟
إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"العدد 127 - الجمعة 10 يناير 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1423هـ