تعتمد التنمية الاقتصادية على سعي الناس بمختلف فئاتهم للحصول على مزيد من المنتجات والخدمات التي تسهل لهم حياتهم اليومية. ولكي تتوافر السلعة والخدمة فإن المواطن يلزم أن تكون له القدرة على شراء تلك السلعة أو دفع المال مقابل الحصول على تلك الخدمة. وحتى لو وجدت أعداد كبيرة من الناس فإنه لا فائدة منهم إلا إذا كانوا يستطيعون شراء السلع والدفع مقابل الخدمات، وإلا أصبح وجودهم عالة على أنفسهم وعلى الدولة وعلى رجال الأعمال. ولذلك فإن عدد أفراد الأسرة في أوروبا والدول المتقدمة أقل منه في الدول الأخرى، ولكن أفراد الأسر لديهم من المال ما يكفي لشراء ما هو موجود في السوق. ولذلك فإن التاجر يربح والاقتصادي يستطيع أن يمارس عمله لأن هناك اقتصادا ينمو والحكومة تتجه إلى مزيد من التنمية لأن وضعها استقر ومواطنوها يشعرون بالارتياح أكثر من الاشئمزاز.
هذه النظرية فهمتها الشركات الكبرى قبل الحكومات وقبل أصحاب الأعمال في بلداننا. فمع بدء عصر العولمة في الاقتصاد سارعت الشركات العالمية الأميركية والأوروبية الكبرى إلى استثمار أموالها الطائلة ونقل خبراتها إلى الصين والهند وحديثا إندونيسيا والبرازيل، والنظرية التي اعتمدتها هذه الشركات الكبرى التي تمتلك موازنات أكثر من دول الشرق الأوسط هي أن العالم بدأ يقترب من بعضه بعضا والأسواق العالمية بدأت تنفتح على بعضها بعضا، وأن هذا النمو العالمي سيزداد خلال العشرين سنة المقبلة، ولكن لكي يزداد ولكي تبقى هذه الشركات مسيطرة ونامية ومقتدرة فإن عليها أن تنمي القدرة الشرائية للصينيين والهنود والاندونيسيين والبرازيليين، لأن هؤلاء يمثلون أكثرية شعوب العالم عددا.
وإذا كانت العولمة تعني عدم وجود جنسية واحدة للشركات فإن الأفضل لهذه الشركات أن تحضر من الآن في هذه الدول، وأن تستثمر ما لديها من المال وتحول خبراتها إلى تلك الدول لكي تبقى ويبقى اسمها ضمن الشركات الكبرى مستقبلا.
وعلى هذا الأساس انهالت الشركات الكبرى جميعها من دون استثناء (ماعدا شركات التصنيع الحربي وصناعة الفضاء والصناعات النووية والصناعات المتطورة جدا) على افتتاح فروع لها في الصين وهي تنزح الآن إلى الدول الأخرى بشكل حثيث استمر ومازال مستمرا منذ أكثر من عشر سنوات. وتشترط هذه الشركات وجود قوانين حميمة لهم ولا تعادي وجود الاستثمار الأجنبي (ضمن شروط معقولة)، كما تشترط وجود شفافية في التعامل وعدم فرض شروط فاسدة، مثل اشتراط نسبة لمسئول أو وزير أو مدير شريطة السماح لهم بإقامة مصنع أو شركة. كما يشترطون أن تكون هذه القوانين مطبقة على الجميع وليس فيها تمييز ضد هذا النوع من الشركات أو تلك من البلدان. وبمجرد أن تنمو الحركة الاقتصادية تزداد معاشات المواطنين في تلك البلدان، ويزداد مستوى التعليم والتدريب والخبرة ويقل عدد الفقراء ويبدأ الفساد الإداري بالاضمحلال، فتقل الرشوة والواسطة ويبدأ الجميع التفكير في التنافس على أساس الكفاءة والخبرة والقدرة، وينمو الوضع على أسس صحيحة بعيدا عن المحسوبية والمنسوبية والتفرقات العنصرية والطائفية وغيرها.
الحكومات التي نجحت في استقطاب الاستثمار الأجنبي ورفعت من مستوى دخل مواطنيها وغيّرت دورها، وضعت اهتمامات السوق التنافسية في الأولوية. وبدلا من التلاعب بالمال العام عبر المحسوبية والمنسوبية والواسطة ووسائل الفساد الإداري الأخرى، انتقلت تلك الحكومات (شرق آسيا مثلا) إلى تكوين وتنظيم مؤسسات بهدف التشجيع على ترشيد موازنة الدولة وإعادة استثمارها في البنية التحتية للبلاد وفي تطوير قدرات وخبرات المواطنين وفي التركيز على التكنولوجيا المتطورة التي تدفع عجلة الاقتصاد. والأهم من كل ذلك حولت الحكومات هناك علاقاتها بالقطاع الخاص من علاقة آمر ومأمور ومن علاقة خوف وعدم شفافية إلى علاقة «شراكة» في القرار و«شفافية» في اتخاذ القرار و«احترام» بعيدا عن الخوف من تدخلات حكومية تسعى إلى مصالح خاصة بأفراد الحكومة... ولذلك فإن الوزير في البلدان المتطورة ليس «بعبعا» وليس «تاجرا» وليس «آمرا» وإنما هو خبير (تكنوقراط) ومؤتمن موثوق به وشريك في القرار ومسهل للأعمال (وليس منافسا لتجارته الخاصة) وخاضع للمحاسبة ويمارس كل ذلك بـ «شفافية» من دون غموض وضباب مكثف ورعب مفروض بقوة السلطة. هذا التغيير في دور الحكومة ساعد أولا المواطنين على استثمار أموالهم داخل بلدانهم بدلا من إرسالها إلى سويسرا ولندن ونيويورك، وساعد الأموال الأجنبية على الاستثمار في هذه البلاد التي تسعى إلى شراكة وصداقة وليس لتمصلح خاص لفئة معينة. وفوق هذا كله، فإن الاستثمار الأجنبي (المتعولم) يبحث عن الدول المستقرة بأساليب ديمقراطية وليست المستقرة عبر بناء سجون وإسكان مواطني ذلك البلد فيها
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 127 - الجمعة 10 يناير 2003م الموافق 07 ذي القعدة 1423هـ