البحرين لا يمكن ان تكمل صباها لتصبح الغادة السمراء الجميلة في الخليج، إلا إذا لبست ثوب الحرية المطرز بلآلئ الوحدة الوطنية والمواطنة المتساوية والأمن الوادع. عشنا سنين على كتف هذه الحورية الجميلة لكنا لم نتذوق طعمها الحقيقي أو بالأحرى لم نشعر بالمذاق الأكبر والجميل إلا عندما ركبنا سفينة الإصلاح. ليس معنى ذلك ان ما قبل مشروع الإصلاح كان محكوما بالعتمة، بل فيه إضاءات لا يمكن نكرانها، بيد ان الوضع السياسي والأمني لا يخلو من توجسات وهمهمات ليلية.
هذه الحرية حصلنا عليها بتكاتف القيادة والشعب، فيجب ان نتمسك بها ونحافظ عليها بالعقل والمنطق والاتزان، كذلك بالوحدة الوطنية التي هي الأخرى ملئت بالثقوب جراء تلك الدبابيس الكتابية التي أفرغت ما في قلبها من قيء على جميع البحرينيين؛ لتدق جرس إنذار آخر غير ذلك الصبياني الذي دق من قبل شباب «الهوليغنز»، جرس الإنذار الآخر هو القائم على الأفكار المنمطة والعدائية والعنصرية التي لا يمكن حسبانها على فئة أو أحد، فهي لا انتماء لها ولا تمثل أحدا كما قال الوطني المثقف عبدالله الذوادي في مداخلته الوطنية في برنامج «حياكم معانا» عندما قال: «إن تلك الكتابات التي أخذت تستبطن فئة بعينها لا تمثل أحدا، فهي لا تمثل إلا نفسها». وهذه نقطة جديرة بالانتباه ان الطائفية يجب نبذها من الجميع، ولا يمكن ان تمثل أحدا، ونحن لسنا بحاجة إلى استنساخ قنوات «مستقلة» أخرى للتراشق وإلقاء التهم حتى وان جاءت على هيئة كتابات. فكما أدنا تلك القناة المشئومة والعبثية التي قامت بإثارة النزعات الطائفية بين المسلمين على طريقة تسجيل الأهداف، يجب ان ندين كل نزعة طائفية من أي طرف كان، لأن هؤلاء لا يمثلون إلا أنفسهم أما الطائفتان الكريمتان فهما براء من كل اطروحة قد تفتت الوحدة الوطنية.
إن قدر المسلمين ان يحبوا بعضهم وان يحترموا بعضهم وهم يرون المؤامرات تعقد لأجل ضربهم. وها نحن على أبواب حرب جديدة لها معالمها وإفرازاتها وتداعياتها، فيجب هنا ان نقف يدا واحدة - سنة وشيعة - للحفاظ على أمن مملكتنا وسيادتها، وان نقف موقفا واحدا مع جلالة الملك ضد أي خطر قادم متماسكين، ملتزمين بخطاب واحد محافظين على جبهتنا الداخلية دون أي ارباك متناسين بعض جروحنا حفاظا على ضبط إيقاع الخطاب الداخلي لمملكتنا العزيزة كما تفعل بقية الدول وشعوبها عندما تقترب مياهها وأجواؤها من أي حرب محتملة في منطقتها، لنحافظ عليها ونحافظ على هذه الشفافية والحرية التي حصلنا عليها بفضل تكاتف الجميع. فالحرية هي التي خلقت لنا هذا الأمن، وهذا التغير الملحوظ لمملكتنا. وهنا أسجل نقطة نظام على تلك الدعوات التي ارتفعت منادية بسن قوانين توقف - ولو قليلا - من جماح الحرية بعد بعض الانفلاتات الأمنية وظاهرة السرقات وغيرها لأقول: رفقا بالحرية أيها الاخوان، فالحرية لا يمكن ان تقبل ولو بقيود من ذهب، ولا دخل لكل ما حدث بالحرية السياسية التي نعيشها. فالحرية لا تعني إلغاء سيادة القانون وإلزام الضوابط. إن أكبر نعم نعيشها الآن هي الحرية في الكلام، والصحافة والتعبير عن الرأي وهذه هي مرتكزات مشروعنا الإصلاحي، فلو أن كل حادث مربك ولد معه قانون يحد من الحرية لأصبحت الدول العريقة الديمقراطية أكبر معتقلات في العالم. الأمور تؤخذ بلا تطرف أو تنطع. فكل ذلك لا يبرر هذه الدعوات. فالحرية لا يمكن وضعها في زجاجات مغلفة كما عند الصيدليات، فيكتب على هذه الزجاجات حرية لسنة أولى انفتاح، وحرية لسنة ثانية انفتاح، جرعة للصباح قبل الإفطار وجرعة بعد الغذاء، وجرعة ثالثة بعد العشاء.
بلا حرية لن نعرف الإبداع، لهذا نحن اليوم في الصحافة نكتب بكل شفافية وبكل حرية، لأننا نحب هذا الوطن، ولأننا نحبه نصارحه ونصارح المجتمع بكل ما في قلبنا، قد نقسو في النقد ولكن الهدف هو تألق المملكة خصوصا بعد سنين من تفريخ الوصوليين الذين ليس لهم هم إلا الانتفاخ ولو على حساب تأزم وتورم المجتمع مع السلطة. وأنا على يقين: ان الصحافة البحرينية اليوم بدأت تمارس خدمة كبرى للسلطة، فهي أصبحت الرئة التي يتنفس من خلالها الناس والموضع الذي من خلاله يخرج ذلك البخار المكبوت في داخل تلك الرئة السياسية للمجتمع البحريني، فإن إنزال أي قانون يقوم باستئصال إحدى الرئتينن أو كلاهما يعني استئصال مكسب وطني من أهم العلامات الفارقة واللامعة والمضيئة لهذه المرحلة، وهو ذلك الهامش من الحرية التي منحت اياه صاحبة الجلالة «الصحافة».
إننا نحن الكتاب ومجموعة كبرى من الصحافيين نعيش سحابة حزن وتذمر من أيام مقبلة قد تفاجئنا بقانون تنظيم الصحافة والنشر، وقد تستأصل الرئتين اللتين تكلمت عنهما خصوصا ونحن نعيش أحلى أيام وارتباط وتعلق بين جمهور القراء والصحافة البحرينية وهم يرون كيف أن الصحافة تترافع عنهم وتقوي صلتهم بالسلطة والمسئولين وتوصل صوتهم عندما كان مغيبا خلف تلك الأسلاك النميمية والجدران الحديد التي كانت تحول دون إيصال صوتهم إلى السلطة والمسئول.
نحن نكتب بين أسنان العاصفة، وتحت رحمة ردات فعل الجمهور والسلطة، متحملين كل النقد، ونحن ندخل الملفات والوزارات وبعض أخطاء الجمهور والمعارضة وبكل براءة في سبيل ان نصحح أي خطأ، فيوما نرشق بالحجارة ويوما تلقى علينا الزهور والياسمين، ولكن كل ذلك لم يغير من منهجيتنا الوسطية والمتوازنة في سبيل اصطياد الحق والكلمة المسئولة والموقف الوطني المسئول، فكما اننا رفضنا ان نجعل من الصحافة شوكة مستحيلة البلع، رفضنا كذلك ان نجلس دائما على أرصفة مدينة «نعم» على حد تعبير الشاعر يوفتشنكو. صبرنا على ذلك السوط الذي يجلدنا به بعض الجمهور كل صباح كما وتحملنا كل أنواع العراقيل التي كانت توضع أمام عربة الصحافة من قبل بعض الوزراء، الغيت اشتراكات واشتراكات، يوما يقبلنا هذا المسئول ويوما يرفضنا ذاك المسئول، ولكن كل ذلك لم يغير من التزامنا بما يخدم المصلحة العامة وتحملنا وجع الحروف العربية وكيف تأكلها أحيانا آلة المطبعة فحرف يقع أمام حرف خطأ قد يكلفك كل تاريخك المهني وكل وقفاتك العملاقة مع آلام الناس. فنقطة واحدة في أمر مقدس يغير المعنى وقد يقرب لرقبتك حبل المشنقة فلو قلت مثلا: الحج احرام مؤقت وسقطت نقطة سهوا تحت الحاء ستتحول الجملة: الحج اجرام مؤقت وهنا يذهب الكاتب ضحية حرف واحد كفيل بجعله في قائمة المجرمين في حق كل المقدسات. ألم أقل لكم سابقا أن الكتابة أشبه بالمشي على حد السكين؟.
لهذا إن وجود قانون للصحافة يحد من حريتها أو يجعل الكتاب يبقون خلف الشمس وفي (جمعيات تأديبية) يعني شيئا واحدا هو الغاء الصحافة البحرينية الوليدة حتى وان كان الالغاء حدث تحت تصفيق سعادة الوزير. يومها سنعقد مأتما للصحافة البحرينية الوليدة. فنحن الكتاب لا نمتلك إلا 28 حرفا فإذا أصبحوا - بعد القانون - 5 أحرف فإننا لا يمكن أن نكتب جملة واحدة مفيدة إلا إذا أردنا أن نكون كأولئك الكتاب أو بعض الخاملين الذين ينامون كالحيوانات القطبية 9 أشهر في السنة ولا يستيقظون إلا ساعة دق طبول للفتنة. فإن ذلك الأمر سهل غير أنا لا يمكن أن نكون كذلك فالصحافة البحرينية - ولسنين طوال - إنما بقيت من دون أن تدخل غرفة الانعاش وان كانت تعاني من أزمات مرضية حادة انما بفضل أولئك الصحافيين والكتاب الذين راهنوا على البوح بالكلمة الصادقة وهم لا يعدمون في جميع صحفنا البحرينية. لهذا نحن نرفض أن يتحول الصحافي إلى بهلوان أو إلى راقصة في الكبريه الصحافي أو في الوزارة الفلانية أو العلانية أو إلى مداحٍ للوزير.
فالتاريخ الفكاهي لصحافتنا العربية يذكرنا بحادثةٍ لا تخلو من واقعية مازلنا نعانيها في صحافتنا العربية. يذكر التاريخ أن صحافيا متملقا كان دائما ما يمدح الوزير ويسرف إلى حد الفجور في المدح والتملق إلى درجة لم يستطع حتى الوزير ذاته تحملها، فقام الوزير غاضبا ذات يوم يريد تأديب هذا الصحافي كي يقلل من جرعات ذلك النزق الفاضح من المدح فجعل الصحافي يقف بجنب الحائط ووجهه إلى الجدار وأخذ يضربه ضربا على جميع بدنه من الخلف فوق الظهر والرجلين وكل مكان فالتفت هذا الصحافي إلى الوزير في تملق فاضح وهو يقول: «سامحني يا سعة الوزير أنا مضطر أعطيك ظهري!!». إنه نوع من التملق يصل إلى درجة الغثيان.
مازلت أحسد الصحافة الكويتية وذلك الهامش الذي أعطي لها، وأتمنى أن يزيد عندنا لا أن يتقلص حتى وإن كان التقلص يريح الوزير ففي الوقت الذي مازالت تلك العناوين الحرة تتصدر واجهات الصحافة الكويتية من قبيل: «الفساد يعلن الحرب على الحكومة» «الكويتيون يدفعون فاتورة العبث بالمال العام»... ومازلنا نحن هنا ننوح ونعقد المآتم حزنا وخوفا من القانون الجديد الذي نتمنى عدم اعلانه. ففي الصحيفة الكويتية تقرأ العناوين والكلمات مثل: «قانون الذمة المالية متى يخرج من أدراج مجلس الأمة»، «مظاهر الفساد وكيفية اصلاحها»، «الفساد يعلن الحرب على الحكومة»، «الفساد ينبث في الكثير من الأجهزة الحكومية»...
وهكذا تقدم هناك نواب (البراك والجري والطباطبائي) وجوهر باقتراح قانون «من أين لك هذا؟». كما طالب النواب بتطبيق قانون (الذمة المالية) على الوزراء - انظر ودقق - ونواب مجلس الأمة - وأعضاء المجلس البلدي وأصحاب الوظائف القيادة - طبعا منها الأوقاف. الله كريم - سواء في المؤسسات العامة أو الجمعيات التعاونية والشركات إذ يجب أن يتقدم كل قيادي - ومازال الحديث للصحيفة - بقائمة ممتلكاته هو وأسرته وتتم محاسبته بعد ذلك على أية زيادة».
هل تعلمون الآن لماذا أنا حزين وكيف أننا اناس معتدلون ولسنا نقادا متشائمين وهل علمتم كيف أصبحت الشفافية في الكويت؟ أليس من حقنا أن نكون مثلهم أو أكثر وقد أصبحنا ولكن كل خوفنا من القانون الجديد للصحافة...
لا أعلم هل سيأتي يوم لأكسر القلم وأهاجر ويهاجر غيري كي يفرح الوزراء والمسئولون؟
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 126 - الخميس 09 يناير 2003م الموافق 06 ذي القعدة 1423هـ