العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ

مناضلون غيروا خطابهم ... آخرون بدّلوا جلودهم

السياسة فن النتيجة... رؤية بشأن الواقع السياسي

عبدالله جناحي comments [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

لحساسية هذا الموضوع، الزم نفسي بأن أستعرض أبعاده النظرية بحسب اعتقادي، إذ ان البعد النظري هو الذي اوصلني إلى التحليل السياسي لجملة من التطورات الايجابية التي حدثت في الساحة السياسية، ابتداء بحالة الانفراج السياسي بكل تداعياته من اطلاق سراح المعتقلين وعودة المنفيين والغاء قانون ومحكمة امن الدولة وايجاد فسحة من الحرية السياسية والصحافية والرأي الآخر والتجمع والاحتجاج، مرورا بالاعتراف (الضمني) بالتنظيمات السياسية التي تعبر عنها الجمعيات السياسية الراهنة، وانتهاء بالمنجزات والمكتسبات التي حققتها الحركة العمالية والنسائية، وببعض المكتسبات الأخرى التي تعبّر عنها المؤشرات الصحافية والاحتجاجية وعبر تمكن بعض الاقلام الجريئة من كشف ما يعتقده البعض ضمن الخطوط الحمراء فإذا بها تقوم بفضحها وكشفها وتفتح ثغرة لسيل من التداعيات والتصريحات والخطوات، أو قيام فئة مبادرة بتنظيم مسيرات واعتصامات تعبيرية واحتجاجية لتتحول إلى ظاهرة طبيعية مرتبطة بسلوك مجتمع ديمقراطي.

المنهج الجدلي يوضح ارتباط الظواهر بعضها ببعض وبتأثير الظاهرة والحدث والموقف المعين بجملة من الظواهر أو المواقف التي فعلت فعلها في الواقع وخلقت تراكمات ملموسة معنوية وسياسية ومادية أدت إلى تحول فعلي (نوعي) في الموقف الآخر وفي الظاهرة المرافقة لمثل هذه المواقف. وبالمقابل فإن هذا التأثير الجدلي قد تحقق نظرا لقوة التراكمات في المواقف المرافقة، وإذا كانت الارادة الانسانية لها دور ملموس في تغيير مجرى الحوادث الموضوعية، فإن هذه الارادات الانسانية تتصارع بشكل علني احيانا وبشكل خفي في معظم الاحيان لسحب الحدث والموقف لصالحها ضد الارادات الانسانية الفاعلة الأخرى، ولكنه في المحصلة النهائية سواء سحبت الارادة الانسانية هذه التراكمات لخلق تحول نوعي يحسب لصالحها، أو وافقت أن تلبي مطالب الارادات الانسانية الاخرى فان النتيجة هي تحقيق مكاسب ومنجزات لصالح المجتمع كله بفئاته الاجتماعية أو السياسية المتعارضة في أولوياتها إذ تحقق مكاسب تستفيد منها.

الجدلية الساذجة

نتكلم عن تلك الجدلية الساذجة التي تقول إنه إذا كنت تريد ان تعرف مسببات الاعصار الحادث في أميركا فعليك أن تعلم بأن سببها رفرفة جناحي فراشة صغيرة في الصين إذ أدت إلى تكوين دائرة صغيرة من تيار هوائي دائري حولها فتراكمت وتراكمت وكبرت إلى أن تحولت إلى دائرة هوائية ضخمة ومخيفة تسمى بالاعصار.

إن هذا المنهج الجدلي المتطرف في فهم ترابط الحوادث فيما بينها من الممكن استيعابه إذا كنا نتعامل مع نص فني سريالي أو غرائبي أو خيالي، ولكننا نقصد بترابط الحوادث السياسية في واقع بحريني ذي مساحة محدودة وحراك سياسي وقوى اجتماعية وسياسية معروفة تؤثر علاقاتها وضغوطها على بعضها البعض مباشرة أو بعد حين حينما يتراكم تأثيراتها شعبيا ومعنويا لتصل إلى تغير ميزان القوى أو القناعات. فالتحول النوعي ليس بالضرورة نتاج تراكم مادي فقط وإنما قد يكون نتاج تراكم فكري أو تأثيرات متدرجة على القناعات والاراء التي يعتقد اصحابها بأنها صائبة وصحيحة، فإذا بالضغوطا التراكمية المترافقة معها جدال فكري وسياسي ونظري وحوارات ونقاشات واجتماعات ولقاءات تفعل فعلها لتغيير الموقف أو للخروج بموقف يهدف لسحب البساط من تحت أقدام خالقي الفعل الضاغط، فإذا بالنتيجة تحقيق مكتسبات مجتمعية وتأسيس قيم وعرف وسلوك ونظام ومؤسسة جديدة لم تكن معروفة أو مقبولة لدى من قرر إعلان الموافقة عليها.

أما المفهوم النظري الآخر فيتمثل في بوصلة التناقضات الرئيسية والثانوية، ومفهموم التناقض هنا لا يمكن ان تعطيه دلالة التصادم والاقصاء بالضرورة، وانما هو يعني او يدل على وجود حقوق ومصالح سياسية وحقوقية واقتصادية واجتماعية لطرف أو لأطراف مقابل طرف أو اطراف تمنع في معظم الأوقات وتمتنع في بعض الاحيان وتمانع في أحيان أخرى وتقاوم أحيانا في تقديم أو اعطاء أو التنازل أو الرضوخ للأطراف المقابلة وتحقيق تلك الحقوق والمصالح لها، وتتوضح من المحطات النضالية والسياسية في هذه الجزيرة أنه كلما كانت الاطراف المجتمعية والتيارات والقوى السياسية متفقة في بوصلتها للتناقض الرئيسي ومتحالفة على رغم تناقضاتها وتعارضها الثانوية مقابل ذلك التناقض الرئيسي، كلما كانت تحقق المكاسب والانتصارات.

وكلما اختلفت هذه القوى السياسية بشأن التناقض الرئيسي، وتعددت المواقف كلما تمكن الحكم من تمرير مشروعات سياسية لا تلبي طموحات ومطالب الشعب، وخير مثال على ذلك محطتان بارزتان من تاريخ البحرين أولهما محطة العريضة الشعبية التي حددت التناقض ووجهت البوصلة صوبها، على المحاولات التي تهدف إلى تغيير اتجاه البوصلة نحو اطراف مجتمعية تحت الحملة الطائفية التي نجحت في تحييد قطاع كبير من الطائفية السنية، ولكن بقي الجسم - النواة متماسكة في تجاه واحد، المحطة الثانية بعد صدور الدستور الجديد 2002، إذ اختلفت القوى المجتمعية على التناقض الرئيسي فتم تمرير مشروع لا يحتضن سوى نزر يسير من الحق الدستوري والسياسي الذي ناضل شعبنا منذ عقود من أجله

الانفراج السياسي

عوامل كثيرة أسهمت في انتقال المجتمع إلى مرحلة الانفراج السياسي التي توجت بشكل جلي بعد التصويت على ميثاق العمل الوطني، منها عوامل موضوعية اقتصادية وسياسية تفاعلت فيما بينها، كأزمة البطالة التي بدأت تستفحل في بداية التسعينات من القرن الماضي، فضلا عن المطالبات السياسية التي رفعتها لجنة العريضة الشعبية انذاك، بيد أن هذه العوامل وصلت إلى مرحلة الفعل والتأثير نتيجة لتراكمات سياسية خارجية أثرت نتائجها المعنوية والمادية على الواقع المحلي منها على سبيل المثال الثورة الايرانية الاسلامية التي خلقت حالا سياسية جديدة في الساحة المحلية، إذ تم تأسيس تدريجي لحركة اسلامية سياسية (شيعية) تراكمت تأثيراتها وتحولاتها الثوروية ابتداء، حينما ارتبطت بشكل عضوي بأهداف الثورة الاسلامية في ايران وآمنت بتصدير الثورة، مرورا بتأثيرات حركات سياسية كفاحية شيعية كحزب الله في لبنان وحزب الدعوة وانتهاء بالتحول النوعي في لغة خطابها السياسي حينما بدأت نواتها الاساسية تتبنى الأهداف الديمقراطية وتقترب في مطالباتها رويدا رويدا من مطالب الحركة الوطنية القومية واليسارية إلى أن تم التوافق في المطالب المتمثلة بعودة الحياة النيابية وتفعيل مواد دستور 1973 المعطلة منذ حل المجلس الوطني العام 1975، فضلا عن المطالب السياسية الاخرى التي تم الاتفاق عليها في العريضة الشعبية المعروفة.

ومن العوامل الخارجية التي أثرت نتائجها المعنوية والمادية على الواقع المحلي، تداعيات حرب الخليج الثانية التي أصبحت كنقطة تحول نوعية على صعيد لغة الخطاب السياسي لما بعد الحرب، ومنها بروز مقولات حقوق الانسان والشراكة المجتمعية في اتخاذ وصنع القرار وأهمية ان تتخلص الولايات المتحدة الاميركية من ازدواجية معاييرها تجاه تخالفاتها مع الانظمة الشمولية والقمعية وغيرها من المقولات التي أنتشرت تأثيراتها في تسعينات القرن الماضي.

نتيجة التفاعل

إن تفاعل هذه العوامل التي أدت إلى اندلاع انتفاضة شعبية، تعتبر من أطول الانتفاضات في تاريخ شعبنا، قدمت فيها عشرات الشهداء وآلاف المعتقلين ومئات المنفيين، وهي التي خلقت تراكمات مؤثرة أدت إلى التحول النوعي المتمثل بالانفراج السياسي بعد التصويت على الميثاق، ويأتي العامل الانساني أو الارادة الانسانية المتمثلة بوجود ملك شاب قرأ الواقع السياسي والاقتصادي قراءة سياسية سليمة وصحيحة فأسهم في هذا التحول النوعي في البلاد، ولذلك يمكن القول إن دور (الملك) كان واضحا في التغيير، إذ أدى ذلك إلى تسريع حركة التحول الايجابي.

بيد أن المسألة المهمة هنا تتمثل في وجود قوى ضغط مجتمعية لم تتهاون ولم تتنازل عن مطالبها الثابتة على رغم المحاولات الكثيرة التي نفذت من قبل الحكم بهدف تمييع المطالب او ترقيع الواقع من دون العمل على تغييره نحو الأفضل المطلوب، وأعتقد بأن اصرار هذه القوى المجتمعية الضاغطة السياسية منها على وجه الخصوص هو الموقف أو الحدث الذي أدى إلى تعاضد المواقف الاخرى معه وانشا التحول النوعي.

ذلك أن هذه القوى المجتمعية لم تنجر وراء قوى وشخصيات مارست دورا تضليليا وتبريريا في تلك المرحلة، ولم تقتنع باطروحات هذه القوى والشخصيات التي كانت تنظر تنظيرا تبريريا ملخصه يتمثل في أهمية الاقتناع بما هو كائن أو بما هو معطى للشعب أو بالعمل مع شيء أحسن من لاشيء (ونقصد به مجلس الشورى الذي طرح كمشروع بديل عن المطلب الشعبي بعودة الحياة التشريعية الحقة)، بل اصرت - كل في موقعه - ابتداء من تأثير ضغط الشارع الشعبي باحتجاجاته المدنية، مرورا بالضغط الحقوقي الدولي وانتهاء بالمقالات والبيانات الصادرة عن الخارج، فهذه المواقف المتكاملة بعضها ببعض، كانت قوى ضغط لرفع السقف إلى أعلى، وأقول الضغط وليس الموافقة على ما هو كائن، أو التبرير ضمن مقولة (السياسة فن الممكن)، والنتيجة النهائية من ذلك هي ان هذه القوى تعاملت مع (السياسة كفن النتيجة) التي لابد أن تثمر ما تم العزم على تحقيقه، هي وأن جاءت من شجرة روتها الدماء والتضحيات الجسام لحركات سياسية منذ عقود من الزمان لغاية الانتفاضة الاخيرة، فإن لاقطيها ومتذوقي طعمها الحلو واللذيذ نال الجميع من دون استثناء من المناضلين إلى الانتهازيين المتسلقين والطفيليين وحتى التبريرين الذين غيروا لغة خطابهم، وكذلك المفسدين الذين بدلوا جلودهم لتتلاءم مع الخطاب الجديد للمرحلة الجديدة

إقرأ أيضا لـ "عبدالله جناحي"

العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً