عندما تتوقف آلية تجديد إنسانية الإنسان في المجتمعات البشرية يتحول الفرد من الداخل إلى مجرد عبدٍ لغرائزه الأنانية فيتمحور في تفكيره حب السيطرة وقهر الآخرين خارج المنظومة الإنسانية العامة.
وفي الواقع العربي الراهن توقف تجديد انسانية الإنسان بفضل التطور الهائل لأجهزة القمع... ليس القمع السياسي وحسب وإنما الاقصاء التام من دائرة الإنسانية. فالتحولات التي نمت داخل فكر الفرد العربي أجبرته على تنفيذ قوانين السلطة من دون اعتراض أو مناقشة.
إن التراكمات التاريخية التي رسخها الاعلام العربي حققت أهدافا ما كان لها أن تتحقق لو واصل هذا الفرد نضاله الجماعي وأعلن العصيان القانوني في وجه الاعلام المزخرف والمدجن بالشعارات اليومية الاستهلاكية. إلاّ أن الفرد العربي الذي يفكر بغرائزه أوقعته هذه الغرائز في براثن السلطة، وانطلت عليه الوعود البراقة التي تتمفصل حول تحسين ظروفه المعيشية ومنحه فضاء فضفاضا من الديمقراطية التي تم اختراعها لتكون منسجمة مع غرائزه الأنانية.
إن الإنسان العربي بحكم تعامله مع السياسة بمنظور الأخلاق والشعارات صار يصدق كل شيء تقرره أجهزة السلطة ولم يعد في مقدوره المجابهة فقد تحول إلى إناءٍ ممتلئٍ بالقوانين الرسمية التي يطبقها بغريزته التي تدفعه إلى الاستسلام وترسخ فيه مبادئ العبودية.
وحين تتداخل الغرائز وتتقاطع تمنو وتزدهر القيم اللاإنسانية كمحاربة الفساد الإداري وتشكيل قانون لسرقات المال العام والنهب وتوزيع غير عادلٍ للثروة الاجتماعية والسيطرة على الأراضي وابتزاز الشركات والمؤسسات والمصارف وفرض نسبة حسابية عليها ورسومات ومشاركتها في الأرباح من دون سند قانوني وفتح المجال أمام الاستثمارات غير الشرعية وإقامة علاقات تبادل للمصالح.
هذه الغرائز لا تتوقف عن الحد الاقتصادي إنما تشمل التعليم والسياسة والإعلام وترسيخ التفرقة بين المذاهب وتحويل البشر إلى مخلوقات متنابذة متصادمة وكلما اختلف البشر فيما بينهم تعززت السلطة القمعية في الاتجاه المعاكس.
ففي التعليم ينقسم المجتمع البشري إلى قسمين... فالأقلية تحظى بالتعليم الخاص سواء في داخل البلد أو خارجه. فأبناء أصحاب النفوذ السياسي ينتظمون في أفضل الجامعات العالمية وعلى نفقة الدولة وتبلغ الهيمنة مداها بشراء الشهادات وحتى الذمم. والأكثرية لا تحظى إلاّ بتعليم ضعيف فأبناء هذه الشريحة يعيشون في واقع بائس وأكثرهم لا يكمل تعليمه بسبب الظروف الخاصة أو العوامل الأخرى التي يفرضها نظام التعليم المتخلف.
وفي المجال الصحي تجد العلاج متوافرا للأقلية وغير متوافر للغالبية التي تطحنها الأمراض والأوبئة الناجمة عن الظروف السيئة للحياة بما فيها المسكن غير اللائق والتغذية غير السليمة والعوامل الأخرى التي تفرض الأوضاع السيئة بالقوة.
كل هذه المناظر الإنسانية هي إنعكاس لنتاج الغرائز من قبل أصحاب النفوذ لأن تقسيم المجتمع يؤدي إلى اختلال في التوازن، وتسهيل السيطرة على القسم الأضعف بينما القسم الأقوى يتنامى ليصل إلى درجة التشبع فيعيد تكرار هذه الدرجة في جذور أجياله المقبلة التي ترث أسلحة يمكنها بالتالي أن تواصل سياسة الهيمنة الاجتماعية فهي تجدد نفسها تلقائيا وبشكل آلي وفي مقابل ذلك تبقى الأكثرية معزولة من شروط التطور الاجتماعي.
لقد توصل ماركس إلى تحليل هذا الوضع وسماه «الصراع الطبقي» فالأكثرية البشرية (البروليتاريا) لا تملك وسائل الانتاج التي هي تحت سيطرة الأقلية وعلى رغم وجود آلية طبيعية لهذا الصراع فإنه يؤكد حاجة كل شريحة لبعضها بعضا، إذ لا يمكن للبروليتاريا أن تعيش بمعزل عن البرجوازية المالكة وبالتالي فإن التبادل المعيشي بين الشريحتين يفرض وجوده ما لم تحدث تحولات جذرية أو تغييرات في أسلوب قيادة المجتمع الطبقي.
إذا كانت السلطات العربية تتعمد إبعاد الفرد العربي عن اكتشاف سلبياتها وصراعها الطبقي معه من خلال التعتيم الاعلامي وفرض شروطٍ بالقوة عليه وسلخه ثم بتره من التطورات الاجتماعية التي تحدث في العالم. فلماذا لم تتحرك «الانتلجنسيا» العربية في فضح هذه المخططات السلطوية وتنوير الشارع العام (الجماهير المسحوقة) بمثل تلك المخططات؟
لماذا تصمت العقول المثقفة... في مسألة تجديد إنسانية الانسان العربي؟ لماذا تنتصر غرائز الطفيليين وموظفي السلطة في إقتسام حقوق البشر البائسين... ولا يترك حتى الفتات لهم؟
إن الاصلاحات التي تجرى بين مرحلة وأخرى هي إصلاحات هشة وهي أشبه بمن يصاب بالتخمة فينظر حوله فيجد جياعا كثيرين ثم يتصدق عليهم لاسكاتهم فيعتقدون أنها مكاسبا فيقدم الاعلام الموجه بتضخيمها فتتحول الصدقات إلى أغلال حديد حداثوية الصنع
العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ