العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ

المعايير المزدوجة والأخلاق الكاذبة والنفاق...وراء الحرب على الإرهاب

روبرت فيسك comments [at] alwasatnews.com

أعتقد بأنني استطعت تركيب الصورة. كوريا الشمالية تنقض كل المعاهدات النووية مع الولايات المتحدة، وتطرد المفتشين الدوليين وتعد لانتاج قنبلة خلال عام، وينبري الرئيس بوش قائلا : «انها قضية دبلوماسية»! والعراق يسلم تقريرا مكونا من 12 ألف صفحة عن أسلحته ويسمح للمفتشين بالتجوال في طول وعرض البلاد، ولما لم يجدوا مواد كيماوية خطرة حتى في حجم الجرة، في أعقاب شن 230 غارة، فإن الرئيس بوش يعلن أن العراق يشكل تهديدا لأميركا، وأنه لم ينزع أسلحته وربما يتطلب الأمر الغزو. إذن... هنا مربط الفرس!

وطالما سألني القراء في الكثير من رسائلهم الرائعة، كيف يجوز ذلك؟ بل كيف يحق ذلك لطوني بلير؟ فلم يمض طويل وقت على وقوف رئيس وزرائنا الحبيب في مجلس العموم وإعلانه بنبرته المدرسية المعتادة - التي يستخدمها بالخصوص التلاميذ المتبلدون أو المهملون في الصف - بأن مصانع صدام للدمار الشامل تعمل (انتبهوا) وتتوسع (انتبهوا) الآن... ولكن الزعيم العزيز في بيونغ يانغ لديه مصانع «تعمل (انتبهوا) وتتوسع (انتبهوا) الآن»، ولكن بلير يلزم الصمت! فلماذا يتم التسامح مع ذلك؟ ولماذا يتسامح الأميركان؟ فخلال الأيام القليلة الماضية كان هناك مجرد لمحات صغيرة جدا بأن الإعلام الأميركي - الذي يستحق اللوم والمناصر الأكبر لحملة الكذب التي يقودها البيت الأبيض- قد أخذ يطرح، وإن يكن بقلب جبان، أسئلة قليلة. فبعد شهور من بدء «الاندبندنت» لفت نظر قرائها إلى الزيارة الشخصية الحميمة التي قام بها وزير الدفاع الأميركي الحالي رامسفيلد إلى العراق في ذروة استخدام صدام للغازات السامة ضد إيران في العام 1983، فإن الـ «واشنطن بوست» قررت في الأخير إطلاع قرائها على جزء صغير مما يجري. فالمراسل الصحافي ميشيل دوبز يضمن الكلمات المراوغة المتملصة («فالآراء تختلف بين خبراء الشرق الأوسط... ما إذا كان بإمكان واشنطن عمل ما هو أكثر لوقف وصول التكنولوجيا إلى بغداد لانتاج أسلحة الدمار الشامل»)، وهنا مورد الطعن: فنحن خلقنا الوحش والمستر رامسفيلد شخصيا لعب دوره في ذلك. ولكن لم تتجرأ صحيفة أميركية-ولا بريطانية - على كشف علاقة أخرى، على درجة الخطورة نفسه، وهو دور الإدارة الأميركية الحالية الخفي: من خلال النظام الذي يدعمه الجيش في الجزائر. فالآن قد مضت عشرة أعوام، وما زالت واحدة من أقذر الحروب في العالم كله تدور رحاها هناك. المفترض انها تدور بين «الاسلاميين» و«قوات الأمن»، والتي ذهب ضحيتها حوالي 200 ألف شخص، غالبتهم من المدنيين، ولكن خلال الأعوام الخمسة الأخيرة كانت هناك دلائل متزايدة تدل على ان عناصر من قوات الأمن نفسها تورطت في بعض المذابح الأكثر دموية، بما فيها قطع رقاب الأطفال الرضع. وقد نشرت «الاندبندنت» بعض التقارير الأكثر تفصيلا عن تعذيب الشرطة الجزائرية والإعدامات غير القانونية للنساء كما للرجال. ولكن الولايات المتحدة، (غطت) على النظام الجزائري كجزء من حربها القذرة ضد الأرهاب، فهي تساعد على إعادة تسليح الجيش الجزائري، ووعدت بتقديم مساعدات أكبر.

مساعد وزير الخارجية ألأميركي للشرق الأوسط ويليام بيرنز أعلن أن واشنطن «أمامها الكثير مما تتعلمه من الجزائر عن طرق مكافحة الارهاب»، وبالطبع كان بيرنز على صواب. فقوات الأمن الجزائرية يمكن أن «تعلم» الأميركيين كيفية إخضاع أي سجين أو سجينة. ويمكن أن يتأكد أي مسئول أميركي من هذه الطريقة - بل يمكن أن يجد خبراء في هذا النوع من التعذيب المطبق في مركز شرطة شاتو نوف في وسط الجزائر- بحيث يتم حشو فم الضحية المقيدة بخرقة ثم نقعها في سائل تنظيف. فيأخذ السجين بالاختناق ببطء، وهناك بالطبع نزع الأظافر وتوصيل الأسلاك بالأعضاء التناسلية للسجين ذكرا أو أنثى. ولن أنسى إطلاقا ما وصفه شاهد عيان: اغتصاب امرأة مسنة في مركز شرطة، حيث ظهرت مغطاة بالدم وهي تحث بقية السجناء على المقاومة.

بعض شهود هذه الأمور الفظيعة كانوا من ضباط الشرطة الجزائرية الذين التجأوا إلى لندن. لكن البقية يؤكدون، والمستر بيرنز على صواب، أن الأميركيين بإمكانهم أن يتعلموا الكثير من الجزائريين، وهم فعلا يتعلمون. فمسئول الأمن الوطني الملحق بالسي آي أيه أعلن ان «التحكم بالألم لدى المرضى المجروحين أمر شخصي جدا».

في هذه الأثناء يتم «جرد» داخل الولايات المتحدة للمسلمين بسرعة. ففي 17 نوفمبر/تشرين ثاني توجه اللبنانيون والمغاربة والعمانيون والقطريون والصوماليون والتوانسة واليمنيون والاماراتيون - إلى المكاتب الفيدرالية لأخذ بصماتهم. وكشفت «نيويورك تايمز - الدجاجة الأكثر تخصصا من بين الصحف الأميركية في تغطية ما بعد 11 سبتمبر- (فقط في الفقرة الخامسة من تقريرها بالطبع) أنه «خلال الأسبوع الماضي قام مسئولو الوكالة بتقييد واعتقال مئات الرجال الذين حضروا لأخذ البصمات. وفي بعض الحالات كانت تأشيرة الإقامة للعمال أو الطلاب انتهت، وفي حالات أخرى لم يتمكن الرجال من تقديم وثائق كافية للهجرة». ومن بين ألف معتقل من دون محاكمة أو تهمة بعد حوادث سبتمبر، كان الكثير منهم ممن ولدوا على الأرض الأميركية.

والكثيرون من الأميركيين لا يعرفون ما يعنيه «تقوية أميركا بتزويدها بالأدوات والوسائل الكفيلة بوقف ومنع الارهاب، فـ («برنامج التوعية الشامل») الذي يتكلف 200 مليون دولار سيسمح للحكومة الأميركية بمراقبة البريد الألكتروني للمواطنين وأنشطة الانترنت، وجمع المعلومات عن حركة جميع المواطنين. وعلى رغم أننا لم نسمع من الصحافيين شيئا عن ذلك، فإن الادارة الاميركية الآن تضايق الحكومات الاوروبية لمحتويات ملفات المعلومات الخاصة بمواطنيها. وأحدث هذه المطالب ما تقدمت به للوصول لسجلات الكمبيوتر للخطوط الجوية الفرنسية، «ايرفرانس»، بحيث يمكن أخذ معلومات عن آلاف المسافرين عليها.

والقوانين الجديدة تعدت ذلك إلى المجال الاكاديمي. خذوا مثلا جامعة بوردو في انديانا، إذ ألقيت محاضرة قبل بضعة أسابيع، فبالتمويل الفيدرالي انشيء الآن «معهد الامن الوطني»، والذي سيضم خبراؤه الـ 18 تنفيذيين من بوينغ وهيولت بيكارد ووزارة الدفاع والخارجية، لتنظيم «برامج بحثية» عن «المناطق الحيوية». والسؤال هو: أين ستكون هذه المناطق؟ طبعا ليس لها شأن بالعدل في الشرق الأوسط، أوالصراع العربي- الاسرائيلي أو وجود آلاف الجنود الأميركان في الدول العربية.

في الوقت نفسه ، نتقدم للحرب على العراق الذي يمتلك النفط، بينما نتجنب الحرب على كوريا لأنها لا تمتلك النفط. وفي خضم هياج قادتنا، نهدد الأبرياء، ونعذب الأسرى و«نتعلم» من الرجال الذين يفترض ان يمثلوا أمام المحاكم بسبب جرائم الحرب. فذلك ربما يكون خير ذكرى نحملها للرجال والنساء الذين قضوا بوحشية في الجرائم ضد الانسانية في 11 سبتمبر 2001.

خدمة «الاندبندنت» خاص بـ «الوسط

العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً