العدد 125 - الأربعاء 08 يناير 2003م الموافق 05 ذي القعدة 1423هـ

فاطمة التيتون تسمو روحها في «كتاب الاحتضار»

لماذا قدر الشاعرات الوحدة والألم الكبير؟

لن يقول الحقيقة إلا الفن، شعرا أو نثرا أو رسما، لأن الفن ابداع الروح وليس ابداع الجسد، ولأن الفن تجزئة المظاهر في تداعيات الاحساس، ولن يكون الشعر أو النثر، إلا مرآة النفس وانعكاسات الوجوه، والشاعرة البحرينية فاطمة التيتون التي تحتضر في ديوانها الأخير: (كتاب الاحتضار، العشق الذي لا يموت، يرفع للموت اليدين) أوصلتني إلى شاطئ الفن الحزين وأنا أقرأ ديوانها منذ زمن طويل لم أقرأ الشعر الموجع حتى العظم، وكأن الشعراء عندنا تساوت لديهم الخيوط المظلمة والمضيئة، فما عاد البوح من الأعماق إلا صورا تلحق بالعصر، لكن فاطمة في كتابها اليوم توقظ الألم وتعتصر الحزن، وهي تشتاق إلى الاصدقاء والأهل والاحباب والصحبة، تنقل إلينا ما صنعته الحوادث بنا وهي تلهث وراء الألم الضائع:

(لا تسألي البحر الأصمّ

لا تسألي العشق القديم،

هي حسرة تملأ الوجه الجميل

تشمل الشمس الوحيدة تشمل الظلَّ الذي

يبكي نهارا يشتكي الوحدة ليلا

ينحني عشقا ولا... يتغنى بالذي ضاع

هي حسرة لا تكتبيها لا تلبسي الليل الأنين

الصوت ضيعنا حتى الألم ضاعت لياليه الثمينة).

قصائدها كتبت ما بين 1998 و1999م، نقلت فيها ما يجري بروح الفنانة على ارضها وفي بيتها، وبين الحواري، لتقول انها تنزف ألما، وتشرب سما والهزيمة تزيد من غثيان النشيج:

( لا اشتهي ان أروي: كأنني أدفن وأقوم بعد حين.

كأنهم يقتلون ويشربون دم القتيل، كأنهم دواب نفقت تساقطت، تراكمت بين براكين احشائها، وفي كل ليل ترجع رائحة الموت)

لعل الاحتضار أصعب مرحلة من مراحل الوداع، وفاطمة ارادت ان تحتضر علنا وان تومئ بصمتها الصبور المشلول إلى هذا المجتمع الذي بدأ يدافع عن وجود المرأة، وعن حرية المرأة وعن كيانها، وعاد رجاله يرددون في ابواق الديمقراطية عن اهمية المرأة وقيمتها في المجتمع، وهم يجتمعون سرا خوفا من أن تظهر امرأة تفوق بذكائها ذكاءهم فيضطرون إلى حمل السيف والدفاع عن رجولتهم، وكما تقول فاطمة:

( كل الاحاديث تأتي وتذهب

والدمع يدوم)

(كأنكم العناكب تكتمون الخطى

لا تتخطون الخيوط، كل العواصف تسخر منكم

تقهقه في اعينكم ولا تتكلمون).

وتعود إلى أسئلة الوداع في الغرق وفي البحر أو في الصحراء أو التلة الجامدة، وتعود إلى الشك حتى في أسباب السؤال الذي يؤكد ان اساطير الامس والمقبل تتهاوى فتحرق كل شيء، ويبقى من حولها غرباء عن روحها وعن جسدها المتهاوي:

(وهذا الربيع الذي لم يكن

وهذي الجراحات

وأنتم غرباء بين المرايا

بين اقاصيص شوق مريضة

ويأتي الوشاح يباعد بين الطريق وبين الخطى

وينام الحرير تتشظى ابتسامته الخائفة

ينام على دمعة ساكتة

ويخبو يصير رمادا وتبدو النجوم محنطة

وأنتم تنامون خلف الظلام

أرى دمكم ينزوي بين نار وماء

تراودكم أسئلة.

وأعلم أن الدموع التي بعثرت وردكم

وأزاحت ستائركم

لا تعود).

إنه قدر المرأة الفنانة، وقدر الشاعرة أن تحاط بمن لا حياة في عيونهم، ولا أرواح في اجسادهم، لا يقاسمونها الالم أو الحزن، ولا الصبر إن تبقى منه، وهي وكثير من النساء مثلها عن ارضها تحمل في قصائدها الوحدة والألم والغربة، وتحمل في ريشتها ظلالا لنساء مرت ولم تظهر، لماذا؟ هل يجيب الرجال عن هذه الأسئلة؟ وهل قدر الروح الشفافة ان تحترق كفراشة بدخان الغدر قبل ناره؟، لعلي اصبحت اتساءل بالنيابة عنها، فهذه القصائد الموصدة بأسوار من حديد الألم الكبير، تسأل مئات الأسئلة، وتحاور المهتمين بنقل المشاعر إلى الناس، والمدافعين عن بعضهم بعضا والمناصرين لعنصرهم فقط، تسأل لماذا يجب على المرأة الفنانة أن تعيش في هذا الزمن وحيدة غريبة عن اقرب الناس عنها؟:

(لا يسمعون ولا يبصرون

كأن البلاد سراب

كأن الطيور هباء والروح دمية

كأن العيون تراب).

هكذا تشرح اسباب موتها لواقع نعيه جيدا، إنه عالم الرجل الذي مازال يعيش في كنف بعضه بعضا، إذا نجح رجل أو اصطاد تقديرا، أو كتب الياذة، هنئوه علنا والتمت الصحبة تبجله وتباركه وتقوي من شدة تماسكها حوله وتماسكه بها، وان نجحت امرأة احرقوا كتبها، ورموا سهام حقدهم من وراء ظهرها، ودنسوا طهرها، من اجل ألا تظهر أو يقال نجحت امرأة، وهذا ما أرادته كلمات القصائد وهي تشحذ سيف الاتهام على من أوصلها إلى هذا:

( وتخطو المرأة نحو العتمة

والأبناء نحو الرمل المتحرك

وتزداد الصف سوادا

ولا خير في وجه الصبح إذا أتت الشمس العجوز.

على غفلة منا فقدنا الاقمصة والأطفال).

(والقلب الآن في مهلكة في مشنقة.

لا يعرف المدى وجهي ولا يدري غربة الأسئلة

وهزيمة الضوء لا يعرف غزارة الشوق

وحدائق القلب).

وهي في احتضارها لا ترحل وحدها بل تحمل معها كل ما يمكن ان تدفنه في رحلتها لربما تخلص الأمهات من اسماء الآباء، وهي في هذا تصل إلى قمة الإدراك بأسباب الألم المؤدي إلى الاحتضار، إنه ما قد يجري في داخل الأسرة من مسببات لما تصل إليه الذات من انتحار:

(أحمل اسماء الآباء وأمضي بعيدا، اتخلص من جفاف يلوح في سقف الكوخ ويروي العناكب.

استفسر عن معنى الصمت المحدق في عيون الأمهات، في اذيالهن ويرتجي يعرف لون العراء والأفرع الخاوية، يدرك لوعة الأسود والغابة والكهف، ويرى الداء الأخضر الأمل اليابس والقهقهة.

دائما عرفنا ولبسنا أحلام الجنازة، اردنا ليلة اخيرة واحدة وأردنا بهجة الحواس واشتهينا العطش، لكن الجنازة لا تحقق المنى ولا تغفر الأحلام.

واكتوينا بأحلامنا المنتقاة وخجلنا منا ومنكم.

أكلوا الكثير من الحصرم

وابتلينا بداء السكوت

رضينا بداء من الآباء عضال

ورثنا الندم وورثنا رث الفوانيس

ثم ضللنا حلمنا دمنا دفاترنا

وضعنا وضاعت مناقبنا

واختفت الزاوية).

وقد يقال إن من الشعر لحكمة، ولعل الشاعرة كتبت بين سطور الألم كثيرا من حكم الحياة وكثيرا من فلسفتها عند الراحلين حتى ان يصل التحدي من اجل الهروب في التخلي عن اغلى ما يحبه الانسان:

(لا تتهموني بهذا الوطن

تلك الصخور وتلك القبور

ليست أنا).

وها هي تحمل في النهاية قرارها ونعشها يسير أمام روحها الحزينة المستسلمة والبحر يبتلع صرخاتها وينتهي الكتاب ولا تنتهي القصائد التي اشعلت كل هذه المرأة، ولعله احتراق الفنان بفنه كما وانها اعادت لنا تاريخ المرأة المبدعة المطاردة بالألم والوحدة:

(الصمت مر واللقاء فراق.

يستفيق الجمر في الجسد المتعذب في الاحشاء

المطعونة في الظلمة في باب الفضاء.

النعش نعشي سرقته الاسماك، تركتني عارية مني في صمت في شك في ليل لا اعرفه، لا ألمس اسمي، لا اسمع عمري تطاردني اشباحي، لا المرايا ترى لا الأوجاع تضج.

ما أقرب القارعة ما أبعد الأقدام.

البحر يبتلع الصرخات يحمل نعشي ويصلي).

وبعد، لا نستطيع إلا ان نسأل الشاعرة لماذا كل هذا الألم الكبير الكبير، ولماذا كل هذه الوحدة؟ وأين حق الاصدقاء والاخوة والزملاء والأهل، وهل وصلنا إلى العصر الذي لا يعرف فيه الانسان إلا نفسه فقط وبعضا ممن يقدمون إليه المنفعة؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً