العدد 124 - الثلثاء 07 يناير 2003م الموافق 04 ذي القعدة 1423هـ

أوروبا التي نجاورها... ولا نحاورها!

صلاح الدين حافظ comments [at] alwasatnews.com

على عكس أميركا، أوروبا تجاورنا ونجاورها، لا تبعد عنا إلا بمقدار اتساع البحر الأبيض المتوسط، هي في الشمال ونحن في الجنوب منه...

وعلى عكس الماضي، لم يعد البحر المتوسط فاصلا بيننا وبين أوروبا، ولم يعد ميدانا لمعارك الصدامات الحربية الهائلة، التي جرت فوق مياهه وشواطئه وبقرب سواحله، تعبيرا عن عداء سياسي ديني ثقافي، بين الإسلام الذي يحمل العرب رايته، وبين المسيحية، التي يحمل الأوروبيون شعارها...

حتى وإن ظلت عقدة الأندلس من ناحية الغرب، وعقدة الزحف العسكري العثماني من ناحية الشرق، قائمة في بطون كتب التاريخ وذكريات التراث!

أوروبا اليوم أقرب إلينا، ونحن أقرب إليها... يزداد القرب حتما، في وقت تتوحش فيه نزعة الهيمنة الأميركية وانفلاتها عبر العالم، بادئة بنا، مدعية أنها تحمل على عاتقها، تلك الرسالة البشرية، التي فشلت أوروبا على مدى القرون، في نشرها في بلادنا، رسالة تخليص بلاد العرب والمسلمين من وهدة التخلف والانغلاق، ومن «الاستبداد الشرقي»، الذي تراكم عبر الزمن، حتى أنتج قوافل الإرهابيين والمتعصبين، الذين يكرهون الحضارة الغربية المتقدمة الديمقراطية، بفرعيها الأوروبي والأميركي!

حتى أوروبا هذه ـ بكل مثالبها ومواقفها المضادة وتراثها المتعصب ـ تظل أقرب إلينا، لعوامل سياسية واقتصادية، تاريخية وجغرافية، ثقافية وأمنية... وربما نكون نحن الآن في حاجة إليها، كقوة تتشكل على مهل وتتعملق يوما بعد يوم، وفي ضميرها الكامن، محاولة استعادة مجدها الغابر الذي استمر نحو خمسة قرون ماضية، حين كانت بامبراطورياتها «الاستعمارية» المتنافسة هي وحدها سيدة العالم...

الآن سيدة العالم، انتقل صولجانها عبر المحيط الأطلسي غربا إلى أميركا، القوة العظمى المنفردة، التي يعجب بها الأوروبيون ـ كنموذج للقوة والتقدم ـ لكنهم يكرهونها أحيانا، ويغارون منها دائما للسبب نفسه، ولذلك يتطلع الأوروبيون إلى إعادة بناء أوروبا، ربما على النموذج الأميركي، وربما خوفا من النموذج الأميركي، الذي لا يستطيعون وقف جموحه العالمي.

وعلى رغم أنني لا أتفق مع قول أحد كبار المؤرخين الأوروبيين، من أن الحضارة الغربية الحديثة، قائمة على عنصرين، هما: أوروبا التي تمثل العقل والضمير، وأميركا التي تمثل القوة والعضلات، ذلك لأن كلا منهما يحمل مزيجا من العقل والقوة، الضمير والعضلات، فإنه قول يستحق منا التأمل، والاستنتاج هو أن التكامل في صلب الحضارة الغربية قائم عبر التحالف الأطلسي، الأوروبي الأميركي، على رغم أية خلافات هامشية تبرز بين الحين والآخر، ومع هذا فكل منهما يبني مستقبله بطريقته!

ولذلك من الخطأ، أن يتصور أحد، أننا نحاول ركوب الحصان الأوروبي، إغاظة النسر الأميركي، لكن من الصواب أن نفكر جيدا ونعمل جيدا، لكي نحقق مصالحنا مع الطرفين، بالطريقة ذاتها التي يتبعها كل منهما... أميركا تضغط علينا بقوة وأوروبا تستميلنا بنعومة، وكأنما بينهما تناقض ـ انظر جوهر الدبلوماسية الفرنسية مثلا ـ في حين أن الواقع ينفي أي تناقض جذري بينهما الآن على الأقل، وفي المدى القريب أيضا.

ينسى البعض منا، الذي يؤمن بنظرية اللعب على التناقض المزعوم الآن وفورا، أن التحالف الأطلسي ـ بين أوروبا وأميركا ـ هو التحالف الأقوى في القرون الأخيرة، وهو الذي اكتسب مناعة وقوة عبر الزمن، وهو الذي استمد من التربة الأوروبية أضخم حركة استعمار في تاريخ البشرية، حين انطلقت أساطيله العسكرية ومعها هجراته البشرية، شرقا حتى استعمرت استراليا، وغربا حتى استعمرت أميركا بشمالها وجنوبها، وجنوبا حتى ركبت رأس الرجاء الصالح، وهيمنت على العالمين القديم والجديد، واستنفرت ثم استنزفت ثروات الجميع لتبني أمجادها وحضارتها ورفاهيتها.

لكن التحالف الأطلسي الحديث، يظل أيضا هو الأقوى في القرن العشرين، ودعم قوته بخوض ثلاث حروب عالمية متتالية، وانتصر فيها جميعا، الحرب العالمية الأولى، ثم الحرب العالمية الثانية، واكتسح خلالهما الفاشية والنازية، ثم الحرب الباردة، وقضى على الشيوعية حين تفكك الاتحاد السوفياتي وحل حلف وارسو، ورفع رايات حلف الأطلسي على قمم جبال الأورال، بل وأبعد منها نحو الشرق البعيد.

وحين انتهى التحالف الأطلسي من هذه المهمة التاريخية، بدأ جني الثمار، أمنا واستقرارا، ورفاهية ورخاء اقتصاديا، وتقدما علميا وتكنولوجيا، وانفتاحا وتبشيرا ثقافيا وإعلاميا... فهذا هو الانتصار الكبير، لكنه ليس الأخير لمن يحلل جيدا ويقرأ صفحات التاريخ.

وهنا يتفوق الأوروبيون على الأميركيين، لأنهم يجيدون أكثر قراءة التاريخ وتحليل الوقائع على نحو أكثر عقلانية ورشدا.

من هنا يبدو تجاورنا مع أوروبا مهما، ويظل تحاورنا معها أكثر أهمية، لأن روابطنا القديمة ـ بما فيها من صدام وحتى استعمار ـ ومصالحنا المتداخلة، وأمننا المترابط، هي التي يجب أن تلعب الدور الرئيسي.

غير أن واقعنا العربي عموما يقول غير ذلك، إذ أن معظم العرب اتجهوا سريعا إلى التحالف والارتباط بأميركا، لسببين رئيسيين، أولهما أن العرب وقد خرجوا مستقلين ـ أو شبه مستقلين ـ بعد الحرب العالمية الثانية وفي ظل الحرب الباردة، كانوا يحملون روح الكراهية والعداء لسلطات الاحتلال الأوروبي التي استعمرتهم وأهانتهم فابتعدوا عنها، وثانيهما أن أميركا النجم الصاعد، مثلت نموذج القوة والتقدم والشباب الجريء، فوق حطام الاستعمار الأوروبي، مثلما مثلت منارة الحرية والأمل والاستنارة، بعد عصور من الإذلال الاستعماري الأوروبي، فاختار العرب النموذج الجديد!

الآن... يتغير المنطق، وتتغير معه التطورات، ومن ثم يجب أن تتغير المعادلات وتختلف التحالفات، فعلى عكس العقود الماضية، أصبحت أميركا تمثل غطرسة القوة للدولة الباطشة، وتمارس نزوعا نحو الاستعمار وفرض قيمها وسياساتها ومصالحها، بواسطة ترسانات السلاح.

بينما تطل أوروبا علينا وعلى العالم، بوجه معاكس، يحمل معالم الدبلوماسية والدعوة للحوار بديلا للشجار، ولذلك تطرح نفسها، في إطار التحالف الأطلسي على رغم قيادته الأميركية، على أنها الأقرب والأقدر على التعامل مع العرب والمسلمين، وهي الأصلح في إدارة الصراعات مع هؤلاء، بحكم تجارب الزمان وتقارب المكان.

وأحسب أنه من المفيد بل من الضروري، تنشيط التحاور مع أوروبا هذه الآن وفورا، ليس فقط تخفيفا من حدة اعتمادنا شبه المطلق على التعاون مع أميركا، التي يتبدل حالها بسرعة عجيبة، ولكن تحقيقا لمصالح استراتيجية هي الأهم لنا ولهم، وخصوصا أن ثماني دول عربية رئيسية تطل بسواحلها ـ عبر البحر المتوسط ـ على أوروبا، هي سورية ولبنان وفلسطين ومصر وليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وتضاف موريتانيا التي تطل عليها عبر شواطئ الأطلسي، فضلا عن أن باقي المنظومة العربية لها روابط سياسية واقتصادية قوية بأوروبا، وإن كانت أقل بنسب متفاوتة من تلك التي مع أميركا.

نعلم طبعا أن هناك تاريخا طويلا وجهدا غزيرا من أجل تنشيط الحوار العربي الأوروبي، وصولا إلى صيغة برشلونة، لكن الذي نعنيه الآن يتطلع إلى ما هو أعمق وأبعد، يتطلع أولا إلى تجاوز الخوف من الضغط الأميركي، الذي طالما عرقل التقارب العربي الأوروبي السليم، وثانيا إلى إعادة بناء علاقات استراتيجية راسخة مع الاتحاد الأوروبي، تقوم على المصالح المشتركة، وكم هي كثيرة، وفي مقدمتها الأمن الاستراتيجي، والتعاون الاقتصادي الهائل، والحوار الثقافي الحضاري المرتكز على قيم ومفاهيم متقاربة، بل وفهم أقرب، حتى مع النفخ الإعلامي الدعائي في بعث الهواجس الدفينة والعداوات القديمة!

ويجب ألا يفهم أحد، أن دعوتنا لتدعيم العلاقات والصداقات الاستراتيجية مع أوروبا، تخفيفا من الضغط الأميركي العنيف، أن أوروبا صارت مطهرة من المطامع مبرأة من العداوة، جاهزة للصدام حتى مع أقرب حلفائها وأعز أبنائها ـ أميركا ـ من أجل سواد عيوننا...

ولكن يعني أن أوروبا الجديدة تتغير بدرجات عميقة، بمقياس التاريخ، فضلا عن أنها تبني عملاقا اقتصاديا هائلا، يفوق في قوته العملاق الاقتصادي الأميركي.

ولعل انتهاء «الحرب الباردة»، وسقوط حائط برلين العام 1989، الذي كان يقسم أوروبا إلى قسمين متواجهين متصارعين، عجل بدفع الدول الأوروبية، إلى إعادة ترسيخ ثقافة الوحدة والاستقرار، بدلا من ثقافة الانفصال والصراع، وهذا هو الإنجاز الأكبر لهذه الفلسفة والثقافة الجديدة، أوروبا تبني نفسها من الداخل بالوحدة، وتحفظ رخاءها وتضاعف قوتها بالوحدة، وتصون مصالحها الاستراتيجية في العالم عبر الوحدة.

وعلى مدى خمسين عاما عانت أوروبا شذوذ التفسخ والصراع، ثم عادت إلى ربوع الوحدة والاستقرار، ففي العام 1952، وقعت تسع دول أوروبية الاتفاق الاقتصادي الأول للمجموعة الأوروبية، بعد سبع سنوات من توقيع سبع دول عربية ميثاق الجامعة العربية في العام ,,1945. لكن العرب الذين أصبحوا 22 دولة عضوا في الجامعة، لم يتقدموا نحو الوحدة، بمثل ما فعلت أوروبا.

وها هو الاتحاد الأوروبي الذي كان حتى الأمس القريب يضم 15 دولة فقط، يتوسع شرقا، بعد أن ضم في قمة كوبنهاغن يوم 13 ديسمبر/ كانون الأول 2002، عشر دول جديدة من أوروبا الوسطى والشرقية، ليصبح العدد 25 دولة، تضم 450 مليونا، وقد يزيد إلى 550 مليونا إذا انضمت تركيا بعد العام 2004، ليصبح ثالث أكبر تجمع بشري في هذا العالم، بعد الصين والهند، مع حفظ الفارق في كل شيء، وخصوصا في القوة الاقتصادية التي تضع أوروبا الموحدة على القمة، متخطية القوة الاقتصادية الأميركية ذاتها، وبحجم اقتصاد يبلغ 9,2 ترليونات دولار.

مع هذه القوة الاستراتيجية البازغة الجديدة، يجب علينا نحن جيرانها أن نبني أقوى طرق التعاون والتواصل، وأن نفتح معها حوارا عاقلا متخليا عن هواجس الخوف والعداء القديم - من الطرفين - وأن ندخل معها في مشاركة مصلحية حقيقية، فهم يحتاجونا، ونحن اليوم أحوج إليهم من أي وقت، وخصوصا بعد التحولات الهائلة التي أصابت السياسة الأميركية بعد حوادث 11 سبتمبر/ أيلول 2001

إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"

العدد 124 - الثلثاء 07 يناير 2003م الموافق 04 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً