كانت ملامح ونظرات نائب رئيس المجلس الأعلى للشباب والرياضة رئيس اللجنة الأولمبية الشيخ عيسى بن راشد آل خليفة وهو يتنقل بنظره بين الحضور الكبير الذي غصت به قاعة المحاضرات بجمعية تاريخ وآثار البحرين في الجفير وهو يتحدث عن المحرق وذكرياتها، تحمل دلالات خاصة لم يتمكن المحاضر - وهو إبن المحرق الوفي - من إخفائها لولعه الشديد بهذه المدينة العريقة.
ولعل أبرز ما ظهر من دلالات، الحرص على استحضار تاريخ صحيح وتشديد على روابط قوية بين سكان هذه القطعة من مملكة البحرين، مع الحكام من جهة، ومع بعضهم بعضا من جهة أخرى، وهو خطاب جاء في وقته لأهميته البالغة، خصوصا في خضم ما تشهده «المحرق» من مجريات لا «تحمد عقباها» بسبب ممارسات بغيضة تقلق السلم الاجتماعي، تقابلها تحركات مبشرة لتعزيز الوحدة.
وفي بداية اللقاء، وصف رئيس الجمعية عيسى أمين محاضرة الشيخ عيسى بن راشد هي أول الغيث في البرنامج الثقافي لهذا العام، وضيفنا يحمل سجلا حافلا بالتاريخ يكاد أن يندثر، وهو يمد الجسور بين الماضي والحاضر ويجعل من الصورة المجزأة واحدة، فهو إنسان مبدع خارج العمل الرسمي، وملتزم فيه يجسد الذات المنتمية إلى المجتمع والفاعلة من أجله، والمتفاعلة مع أحاسيسه... وزاد في الوصف ليقول : «يرتدي بذلة الجيش والرياضة، ولكنه في النهاية حرف الوطن، صورة أخرى... شعر وتراث اختلطت المعالم فيه لتعطينا الصورة الأخرى للمثقف المسكون بالتراث والمحافظ عليه، والقلم الناطق بالكلمات التي أطربت ولا تزال تطرب الجميع».
واستهل الشيخ عيسى بن راشد محاضرته بالقول إن المحرق بالنسبة لنا - نحن أبناء المحرق - ليست مدينة كما يقال، بل هي بالنسبة لنا وطن وعشق تربينا فيها وعشنا في أحيائها، وسأحاول قدر المستطاع أن أنقل المحرق إلى هذه القاعة لأزرع حبها في قلوبكم جميعا، وحتى تدركوا لماذا نحن نحب المحرق دون غيرها، ولماذا نحن «نتعصب» من أجلها، ونحملها معنا أينما سرنا.
نبذة تاريخية عريقة
وانتقل إلى نبذة تاريخية عن المحرق فأشار إلى أن لها ثلاثة أسماء في التاريخ، اسمها الأول الذي نقل من الخرائط البرتغالية (أرادوس) وظل ساريا في الخرائط البرتغالية لأنها كانت تجوب من خلاله البحارة الخليج خاصة وبحر العرب عامة، لذا سجلوا اسم المحرق باسم ارادوس على جميع الخرائط التي وردت منهم، ثم سميت فيما بعد سماهيج، ونقلت في الخرائط بأسماء عدة مثل: سماها... سمكة... لكن الأصل والنهاية «سماهيج»، التي تعد إحدى المراكز المسيحية في الخليج لسنوات طويلة وبجانبها قرية الدير، وفيها - أي في وسط قرية الدير- كان هناك قبر هو قبر الراهب الذي تعمل له النذور، وأنا من الأشخاص الذين ذهبوا إلى قبر الراهب وحضروا بعض النذور، ثم سميت المحرق، والمحرق في اللغة العربية هو المحل الذي احترق عدة مرات، أو حرق عدة مرات، وذكروا أن المحرق اسم صنم، وهذا غير صحيح، لكن الصحيح هو أنه ربما احترق جزء من المحرق - وهو بلا شك جزء مهم - وإلا لما سميت الجزيرة باسمه! ويقال إن سكان مدينة المحرق في الماضي كانوا يحرقون الجثث، وهذا في اعتقادي غير صحيح أيضا، لكن من دون شك، أنها مكان مهم وله بعض القدسية... ربما يتم تحضير الموتى وقراءة بعض التراتيل قبل دفنهم في المحرق، وكما يعلم الجميع، فإن القبور في مدافن عالي كثيرة وأكثر بكثير من سكان البحرين، ما يعطي اعتقادا عند البعض أن البلاد المجاورة للبحرين كانت تدفن موتاها في البحرين ومن دون شك، قبل الموت، تؤخذ إلى المحرق.
ويعتقد البعض أن (الدير المحرق) في صعيد مصر أخذ اسمها من البحرين لعدة أسباب، أولها أن (الدير المحرق) دير كبير ومهم، وكلمة المحرق غير مقبولة في اللغة الدارجة المصرية لأنها كلمة بذيئة فكيف يختار مكان مقدس باسم بذيء؟ من دون شك، لابد وأن يكون له علاقة باسم المحرق في البحرين.
ثم بنى المحرق الحديثة الموجودة حاليا الشيخ عبدالله بن أحمد آل خليفة في العام 1810 فبناها في التلة التي هي في وسط المدينة وفيها بيت الشيخ عيسى بن علي آل خليفة.
وعلى أطراف مسكنه، سكن أبناء العائلة والأقرباء ثم سكنت القبائل العربية في أحياء قديمة جدا من هذا المسكن، ثم سكن أصحاب الحرف التي حضرت مع آل خليفة من قطر وهم البنانين والصاغة والحياك.. كلهم أصحاب مهن سكنوا قرب البيت... ذلك البيت، بيت الشيخ عيسى بن علي بناه المغفور له الشيخ حسن بن عبدالله بن أحمد آل خليفة، وكما تعلمون جميعا أن المحرق تضم عدة عوائل... الجلاهمة (سكنوا الحالة) ثم المعاودة، ثم البنعلي وإلى جهة الشمال، سكن أهل الحاكم وأقرباؤه الذين سكنوا حول بيته، ثم سكنت بعض العائلات من التجار الكبار مثل عائلة الزياني وعائلة فخرو وعلي بن موسى، وعندما نتجه إلى الشمال نجد المنانعة وبن هندي، ثم إلى العمامرة وأخيرا في منطقة البسيتين سكن المشاري والمضاحكة... كلهم كونوا في مجموعتهم مجموعة متناسقة من العرب الذين سكنوا المحرق وعاشوا فيها وتركوا فيها أثرا كبيرا جدا من المجالس والعادات والالتقاء والمحبة والتعاون فيما بينهم.
التعليم... هكذا البداية
وبالنسبة إلى التعليم في المحرق، يشير الشيخ عيسى بن راشد إلى أنه كان قديما جدا، ومن أول المدارس كانت مدرسة راشد إبراهيم الزياني، وكانت في منطقة الحالة وكانت تعلم اللغة العربية والحساب والدين، إلى جانب المطاوعة الذين كانوا منتشرين في كل أحياء المحرق، حتى نما التفكير بإنشاء مدرسة الهداية الخليفية، فشكلت من أجلها هيئة، برئاسة المغفور له سمو الشيخ عبدالله بن عيسى آل خليفة وكبار تجار مدينة المحرق ورجالها، وأخذوا المباركة والتبرع أولا من المغفور له الشيخ عيسى بن علي والمغفور له الشيخ حمد بن عيسى ثم بدأت حملة التبرع من أجل إنشاء هذه المدرسة المهمة.
واعتمدت مدرسة الهداية الخليفية في بدايتها على الأساتذة من بلاد الشام والعراق، ولم تكن البعثة المصرية بدأت عملها بعد لأنها جاءت في الأربعينات والمدرسة تأسست في العام 1919، والغريب في الأمر، أن المطاوعة في المحرق شعروا بالخطر يهدد مهنتهم من إنشاء المدرسة، وتذكر صحيفة «البحرين» التي أصدرها المرحوم عبدالله الزايد بعض الحكايات من بعض المطاوعة الذين يرسلون طلبتهم للقبض على الطلاب الذين يذهبون إلى المدرسة ويرجعونهم إلى المطوع لثنيهم، حتى استسلم المطاوعة في نهاية الأمر إلى المدرسة.
وتعتبر مدرسة الهداية حدثا مهما جدا تعلم منه أهل المحرق وأهل البحرين عامة أمورا كثيرة، فإلى جانب الدراسة، تعلموا الرياضة والانضباط، فالرياضة في البحرين بدأت في مدرسة الهداية الخليفية، وتعلم الصغار في هذه المدرسة على يد اختصاصيين أحضروا لهذا الغرض فتعلموا إلى جانب القدم، لعبة السلة والطائرة وانتشرت الرياضة في البحرين مدة طويلة وكانت مدرسة الهداية هي نقطة الانطلاقة التي بدأت بعدها المدارس تنتشر للبنين ثم للبنات، وأصبحنا في مجال التعليم السباقون، وكانت المحرق أول المدن السباقة للتعليم في البحرين ثم تأتي المدارس الثانية ومنها مدرسة خديجة الكبرى للبنات ولا تزال قائمة، ومن الطرائف التي تذكرها صحيفة «البحرين» أنه في أحد الأيام تشاجر مدير المدرسة مع الصف الرابع الابتدائي، فقرر الطلاب ترك الدراسة، وتقول الصحيفة أن سوق العمل تخاطفهم واحدا بعد آخر، وذهب مدير المدرسة يرجو الطلاب لكي يكملوا العام الدراسي، فلم يستطع إقناع إلا القليل القليل منهم، وبقية الطلاب استقبلهم بعض التجار بحفاوة وهم لا يزالون في الصف الرابع الابتدائي، وكان التعليم في البداية على النظام السوري وكان نظاما قويا ويعتمد على كتب كبيرة وكثيرة، ولم يدخل النظام المصري إلا مع البعثات التي حضرت إلى البحرين فيما بعد.
تأسيس الأندية
هذا باختصار بالنسبة للتعليم في المحرق، أما الأندية في المحرق فهي أقدم الأندية التي ظهرت في البحرين... ففي العام 1920، أنشيء النادي الأدبي الذي أسسه المغفور له الشيخ حمد بن عبدالله بن عيسى آل خليفة ومثل تجمعا ثقافيا وأدبيا كبيرا استطاع استقطاب الكثير من شعراء وأدباء العالم العربي ومنهم أمين الريحاني أثناء زيارته التاريخية لها، وكان النادي الأدبي من الأندية المشرفة للبحرين جميعا وليس المحرق، وأنا لم أشاهد النادي الأدبي ولم أحضره، ولكنني انتظمت مع نادي الإصلاح عندما أخذ بناية النادي الأدبي وكان في ذلك الوقت مقابلا لصيدلية حسن فخرو، في مرحلتها الثانية، وكان عبارة عن غرفة وسطح وقالوا لي أن هنا كان النادي الأدبي.
أما ثاني الأندية التي تشكلت في البحرين، هو نادي البحرين، وبالطبع، تشكلت في المحرق فرق رياضية كثيرة جدا لا تعد ولا تحصى خاصة بعد انتشار الرياضة من مدرسة الهداية الخليفية فكان في كل «فريج» فريق رياضي ولكل منطقة فريق واستمرت الفرق.
تكون نادي البحرين من مجموعة من فرق المحرق، منهم فريق الفتيان الذي كان النواة لإنشاء نادي البحرين، ثم نادي الإصلاح وهو ناد قديم اهتم بالثقافة ونشر الثقافة والمحاضرات الكثيرة وإحياء المناسبات مثل نادي البحرين، لكن الفرق أن نادي البحرين انضم له فريق المحرق وأصبح جزءا لا يتجزأ منه، لذا مارس كرة القدم، أما نادي الإصلاح فظل ناديا ثقافيا تحول فيما بعد إلى جمعية الإصلاح الحالية.
فريق الخليفية والوطنية
كان من أول الفرق الرياضية في المحرق «فريق الخليفية» وتأسس في العام 1928 على يد مجموعة من الشباب اهتموا بكرة القدم وكون مع فريق الوطنية في المنامة منتخبا سافر في العام 1931 إلى العراق ولعب مباريات في البصرة وعاد، أما فريق الخليفية فقد استمر بضع سنوات، ثم اختفى وبدأت الفرق المتعددة المتناثرة في فرجان المحرق تظهر ويقال أن فريق المحرق تأسس ثلاث مرات، وفي كل مرة يتأسس ويستمر فترة ثم يختفي ويظهر مرة ثانية وثالثة وآخر المرات التي ظهر فيها في العام 1944 برئاسة المغفور له الشيخ علي بن محمد آل خليفة، وفريق المحرق - لأنه يحمل الاسم - كان محل اهتمامنا نحن أبناء المحرق، وكما ذكرت، انضم إلى نادي البحرين واستمر سنوات حتى نهاية الخمسينات عندما افتتح ناديا خاصا وانتقل له.
كانت الرياضة مزدهرة في المحرق كثيرا... في مدرسة الهداية الخليفية أولا ثم الأندية الأخرى ككرة القدم التي كانت تمارس في الشتاء، ورياضات أخرى مثل الطائرة تمارس في الصيف عندما يتوقف الموسم، وكما تعلمون، بدأت وزارة التربية والتعليم في رياضة كرة السلة ثم لعبها الطلاب بعد تأسيس مدرسة الصناعة والمدرسة الثانوية، وظلت بقية الفرق في البحرين، وفي المحرق بالذات، مستمرة لسنوات طويلة ثم تقلصت فيما بعد عندما ظهرت مشكلة الأراضي وارتفاع المصاريف.
مجال واسع للفن
وإلى جانب عراقة المحرق تاريخيا، وإلى جانب وجود مدرسة الهداية فيها منذ العام 1919، تعتبر المحرق مدينة الفن في البحرين، أول ما ظهرت الفنون في البحرين وانتشرت كانت من المحرق، فظهر أولا المغفور له الشيخ صقر بن علي آل خليفة والشيخ صقر هو أخ غير شقيق للمغفور له الشيخ عيسى بن علي حاكم البحرين، وكان عاشقا للصوت... مغنيا ومؤديا رائعا له، لكن إلى جانب كونه فنانا ومحبا للفن، كان كثير الاعتداء على الناس، لذا تذمر الناس منه وقدموا شكوى إلى الشيخ عيسى بن علي فنفاه إلى الكويت، وهناك مارس هوايته، وتجمع حوله كثير من أبناء الكويت، ما أثر على المطرب الكويتي الكبير عبدالله الفرج، فاشتكى منه الأخير وذهب إليه وترجاه أن يعيد المستمعين له، فترك الكويت، وذهب إلى لنجة في الساحل الفارسي وأقام فيها سنوات، وفي سفر المغفور له الشيخ حمد بن عيسى آل خليفة إلى بر فارس وإلى لنجة بالذات للقنص، التقوا به ووجدوه في حال يرثى لها فكلموا والدهم بعد عودتهم إلى البحرين وأعادوه لكنه توفى بعد فترة من الزمن، وكان هناك أيضا جبر العماري الذي كان مؤديا للصوت بشكل رائع... هذان الشخصان ظهرا قبل محمد فارس وأظهرا الصوت البحريني قبل محمد فارس بسنوات، ثم جاء محمد فارس، وكان ملحنا ومؤديا للصوت بصورة رائعة، ومحمد فارس أضاف إلى الصوت الشيء الكثير وكان يجهر... كان الغناء في الماضي يؤدي في أماكن غير ظاهرة للعيان، وكان عندهم أنهم «يستحون» يستمعون لعازف عود أو يشاهدون فنا، فكانوا يمارسون فنهم بعيدا عن الناس، لكن حين جاء محمد فارس، ظهر الصوت عيانا وأصبح محمد بن فارس هو زعيم الصوت، ليس في المحرق، وإنما في البحرين كلها، ومع محمد فارس، ضاحي بن وليد، الذي أكمل الدور الذي يؤديه محمد بن فارس وكان جميل الصوت أيضا لكن محمد بن فارس انتشر أكثر من بن وليد، وكان الثالث الذي أكملهم محمد زويد، وسافروا إلى العراق لتسجيل بعض التسجيلات عند شركة «ماستر فويس» لكن محمد فارس، وفي أول رحلة، لم يسجل، وإنما طلب من محمد زويد أن يقوم هو بتسجيل الأصوات فكانت أولى الاسطوانات في البحرين ظهرت لمحمد زويد، ومحمد فارس كفنان فيه وسوسة الفنانين وفيه خوف من عدم الأداء الجيد أمام هذه الآلة الغريبة العجيبة، فسجل محمد زويد أول أصوات حملها من «ماسترفويس» إلى البحرين وبعدها سجل محمد بن فارس وضاحي بن وليد وسجل محمد فارس في العراق ثم في حلب في بلاد الشام، وكانت فترة التسجيل تطول كثيرا في العراق، فالواحد منهم يبقى لمدة ثلاثة أشهر، لدى حملوا لنا الكثير من الأغاني العراقية، وهذه إحدى أسباب انتشار الأغنية العراقية في البحرين أكثر من غيرها لأن فترة الأشهر الثلاثة في انتظار التسجيل وإعداد الأجهزة كافية للتعلم والاستماع إلى أغان عراقية ومخالطة المطربين العراقيين... ويسجلون ويحفظون الكثير من الألحان العراقية التي انتشرت ولا تزال منتشرة ومحبوبة في البحرين.
يوسف فوني، أحد المطربين الكبار في مدينة المحرق وهو إلى جانب أدائه للصوت، غنى أغنيات خفيفة، جدد الإغنية البحرينية كثيرا، وقدم الكثير من الأغنيات التي كانت أشبه بأغنيات الشباب، إلى جانب الصوت الذي ظل مستمرا... أغنيات يوسف فوني كانت أقرب إلى الشباب ويشابهه في ذلك المطرب عبدالله أحمد الذي جدد وغنى الكثير من الأغنيات الخفيفة، في تلك الفترة، التي كانت أقرب إلى الأغاني الشبابية، ثم الأخوين علي وأحمد خالد، كانا من كبار المطربين في المحرق خصوصا والبحرين عموما، أديا الصوت بصورة رائعة وأديا الكثير من الأغنيات الخفيفة التي انتشرت فيما بعد، وبعضها لا يزال حتى يومنا الحاضر في إذاعة البحرين، وكان هناك محمد علاية وهو مطرب قديم عاصر محمد فارس فترة من الزمن وكان يؤدي الصوت أداء طيبا، وسجل بعض الأصوات لكن صوته كان قد ضعف وبهت ولم يعد كما كان في الماضي.
«دبوسة» تعلم خميسة وفاطمة
عبدالله بوشيخة، مطرب من مطربي البحرين عموما والمحرق خصوصا، وكان مطربا غنى الكثير من الأغنيات الرائعة، من الشعر النبطي بالذات، إلى جانب إتقانه للصوت وسجل في الإذاعة الكثير من الأغنيات، وكان مفرح عبدالله مؤديا رائعا للصوت وله القليل من التسجيلات، وكان أيضا إلى جانب هذا العدد الكبير من المطربين كان هناك الفنانات في المحرق، وهن اللواتي يحيين الأفراح بصورة كبيرة وكن المسيطرات على أفراح أهل البحرين بالذات والمحرق خصوصا ومنهن خميسة وفاطمة لخضارية ويقال «دبوسة» هي التي علمت خميسة، ونحن لم نلحق إلا على الاثنتين: خميسة وفاطمة لخضارية.
الفن إلى الخليج... من المحرق!
كان هناك في المحرق دور طرب كثيرة، وفيها تمارس أيضا النهامة، وهي الغناء للبحارة، والبحارة كما تعلمون في غير موسم الغوص، كانوا يرددون لفجري في الدور، ومن أشهر النهامين في المحرق، البلام وأحمد بن خليل و «حمد» وغيرهم من النهامين لكن البلام وأحمد بن خليل كانا الأشهر، وكانت هناك دور كبيرة وكثيرة في المحرق مثل دار لجناع ودار علي بن صقر، ودار الشمالية وفي الفترة الأخيرة، تم تأسيس دار إبراهيم مسعد، ودار قلالي التي لها دورها الكبير في هذا الفن، و هذا الكم الهائل من الفنانين الفنانات يؤكد أن للفن في المحرق مكانة كبيرة جدا، وأن كثيرا من الفنانين هم أصل الفن في البحرين والخليج، نقلوا الفن من المحرق ونشروه في الخليج بوجه عام.
أما علاقة المحرق باللؤلؤ فكانت علاقة لا تختلف عن علاقة البحرين كلها باللؤلؤ، إذ يتحدث الشيخ عيسى بن راشد فيقول :»اللؤلؤ كان معيشتنا في البحرين، نعتمد عليه في حياتنا قبل ظهور النفط وكان كبار تجار اللؤلؤ والنواخذة في المحرق، مثل سلمان بن مطر، بن هندي، فخرو، الزياني، عبدالله بن أحمد المناعي، جبر المسلم، وعدد هائل من الناس كانوا يزاولون هذه المهنة وكان جبر المسلم رحمه الله، يسعد في أيام الحر الشديد في الصيف، لأنه يقول إنه في حالة الحر الشديد يتمكن الغواصون من الغوص بسهولة وإحضار اللؤلؤ، لكن في حالة الهواء، يتعكر البحر ولا يكون الموسم ناجحا فكان يفرح كثيرا وكل تجار اللؤلؤ يفرحون في الحر.
يصلون المغرب في الشانزليزيه
موسم الغوص يمتد إلى أربعة أشهر الصيف كلها، و يتم فيها ممارسة المهنة، ولها ردة بعد شهر أو شهرين للعودة من جديد، لكن الموسم الرئيسي مدته أربعة أشهر، وقد اشتهر لؤلؤ البحرين شهرة عالمية وانتشر في جميع أنحاء العالم حتى أن بعض تجار اللؤلؤ سافروا إلى باريس وإلى الهند لبيع اللؤلؤ وهناك الكثير من الصور لرئيس شركة كارتييه في الثلاثينات أو الأربعينات ينتقي فيها اللؤلؤ بنفسه، وطبقا لرواية الأخ صالح بن هندي، من القديم تقول إن مجموعة من تجار اللؤلؤ سافروا إلى فرنسا وحل عليهم وقت صلاة المغرب في الشانزليزيه، فتوضأوا وأدوا الصلاة في الشانزليزيه، وما أن أنهوا الصلاة بالتسليم حتى وجدوا الناس متجمهرين حولهم وهم في غرابة من ذلك المشهد الذي بدا لهم كمن يمارس رياضة جماعية أو شيئا من هذا القبيل.
شعراء وأدباء المحرق
وانتقل في محاضرته إلى شعراء وأدباء المحرق التي كانت تعج بالكثير من الشعراء والأدباء الذين لهم مكانتهم في تاريخ البحرين، وعلى رأسهم الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة الذي كان عالما وشاعرا ومثقفا وله مجلس أمام منزل إبراهيم بن مطر، وكان يأتيه الكثير من الأدباء - ليس من البحرين فقط بل من جميع أنحاء العالم العربي - وكانوا يفخرون لأنهم مشتركون في كل الصحف الأدبية بالذات، التي كانت تصل بصعوبة إلى البحرين لكن كانت تصل دائما وأبدا، ثم المغفور له الشيخ محمد بن عيسى الخليفة، الذي قدم الكثير وكان يكتب في جريدة «البحرين» بتوقيع الوائلي وكان لي الشرف بجمع ديوانه حتى وفقني الله لإصداره ونستعد لإصدار الطبعة الثانية للديوان، لكن لم أجد من بين قصاصات الأوراق في المنزل شعرا نبطيا، فالشعر النبطي يحفظه الناس ويرددونه على هيئة مواويل للنهامة أو قصائد حماسية لرقصة العرضة، وكلها أشعار للمناسبات، لذا، بقي الشعر النبطي لدى الناس يحفظونه ويرددونه.
أما الشاعر والأديب عبدالله الزايد الذي أصدر جريدة «البحرين» واستمر في إصدارها سنوات طويلة فقد كان يعتمد على نفسه وعلى بعض المساعدين، وإلى جانب كونه أديبا كان شاعرا وله الكثير من القصائد تبادلها مع المرحوم الشيخ محمد بن عيسى ولدي رسائل متبادلة احتفظ بها للاثنين.
عبدالله الزايد لم ينصف، وكان من المفروض أن يدرس عنه ويكتب عنه وأن تنتشر سيرته عند الشباب حتى يعرفون من هو عبدالله الزايد؟ ثم شاعر الشباب عبدالرحمن المعاودة، كان شاعرا حماسيا، وشهدت ظاهرة مسك الختام قصيدة للشاعر عبدالرحمن المعاودة وكان الجميع يتصبر ليسمع قصيدة المعاودة، بعد سنوات هاجر إلى قطر حتى توفاه الله ولكن الحمدلله هناك من الأخوة من جمع شعره وأصدروا له دواوين.
كذلك الشاعر مبارك الخاطر كان شاعرا جيدا ومؤرخا كبيرا وأصدر بعض الكتب التي انتشرت في البحرين، كما أن هناك من الصحافيين والأدباء، منهم علي سيار، وإبراهيم حسن كمال رحمه الله، وكثير من الكتاب الذين عاشوا في المحرق وشاركوا في الكتابة في كثير من الصحف والمجلات.
يعمل في المحرق وينام في مسقط!
المحرق هي بلد الحلويات، فهي من دون غيرها من مدن البحرين اشتهرت بالحلوى وهو قطاع عمل فيه بحرينيون وعمانيون، وكان الكثير من العمانيين موجودين في كل فريج ولبعضهم دكاكين لبيع الحلوى، أتذكر أنه كان هناك أحد العمانيين اسمه زاهر، وكان ذو لحية طويلة جدا، وما كان يعتقد به البعض حول شخصية زاهر، هو أنه، حين يغلق محله عند المغرب بعد انتهاء العمل، ينام «في مسقط»... ثم يعود في اليوم التالي... هو مجرد اعتقاد عند الكثير من الناس.
إلى جانب الحلوى، هناك السمبوسة الحلوة والنشاب وقرص الشيخ وهي حلويات تعمل في البيوت البحرينية لها طعم رائع يختلف عما يقدم اليوم بصورة تجارية.
واشتهرت المحرق بالمربى البحريني المعروف، وقبل أيام مضت سألت عن نخل «سيادي» الذي كان مشهورا بزراعة الترنج «الأترجة»، فعلمت أنه تحول إلى مشروع إسكاني خاص، وأتذكر ذلك النخل منذ القديم حيث كان طلاب مدرسة الهداية حين يهربون من المدرسة، يذهبون إلى النخل ويحضرون لنا الأترج واللوز.
في الخرائط القديمة للمحرق، ومنها البرتغالية نرى بعض النخيل. داخل المحرق لم يكن إلا في فريج العمامرة شمال المحرق، والبقية كانت تتركز في المصايف وسماهيج ونخل بن هندي في قلالي.
أم جان وبندركار
قبل أن اختم الموضوع، لابد أن أتكلم عن اثنين أولهم أم جان، فنحن أهل المحرق لا ننسى قابلة قانونية جلبتها حكومة البحرين لتوليد النساء، ولم نر جان إطلاقا لكن هذا هو اسمها، أما الشخص الثاني، فكان الدكتور بندر كار الذي أحضرته حكومة البحرين... جاء في موسم شتاء، لكنه فضل البقاء يعاونه شخصان الأول اسمه حبيب والآخر اسمه محمد يعملان في عيادته...
قضى سنوات طويلة في المحرق... ثم تقاعد وسافر إلى الهند، وبعد شهر أو شهرين لم يستطع العيش فعاد إلى المحرق مرة ثانية، ويقولون له أولاد هنا... كان رجلا يحبه أهل البحرين محبة عظيمة.
في ختام المحاضرة، فتح المجال للحضور لطرح الأسئلة التي لم تخرج عن إطار النسيج التذكاري لمدينة المحرق العامرة
العدد 2233 - الخميس 16 أكتوبر 2008م الموافق 15 شوال 1429هـ