مثل اعلان كوريا الشمالية مطلع اكتوبر/ تشرين الأول من العام 2002 امتلاكها برنامجا سريا لانتاج اسلحة نووية صفعة قوية للإدارة الاميركية لم يربك خططها لضرب العراق فحسب، بل اربك ترتيباتها الأمنية لأوضاع العالم كذلك.
فهل قلب الكوريون الشماليون الطاولة على الاميركيين واربكوا خططهم فعلا أم ان واشنطن ستسارع إلى احتواء الكوريين سريعا والتحرك قدما لتنفيذ اتفاق العام1994 مع تشديد القيود على التعامل الكوري مع بقية الدول التي تعتبرها واشنطن مارقة؟
جاء الإعلان الكوري الشمالي في لحظة بالغة الدقة، فإدارة بوش التي أثارت الضجيج عن أسلحة الدمار الشامل العراقية، واستغرقت في الاستعداد لضرب العراق... وجدت نفسها في حال تسلل، اذ أصبح حديثها عن أسلحة الدمار الشامل العراقية غير مقنع، اذ كيف تريد ضرب العراق لانها تشك في انه يسعى لامتلاك سلاح نووي، وتسكت عن كوريا الشمالية التي اعلنت انها تمتلك هذا السلاح فعلا. ومن جانب آخر رأت في امتلاك كوريا الشمالية السلاح النووي خطرا على مصالح حلفائها سواء بشكل مباشر (اليابان وكوريا الجنوبية) أو غير مباشر (إسرائيل) عبر بيع السلاح لدول تعتبرها واشنطن دولا مارقة. وهذا يسقط نظرية الاحتواء التسليحي الاميركي، اذ تسعى واشنطن، ضمن خطتها للعب دور شرطي العالم، الى احكام السيطرة على تجارة السلاح وتقييد فرص انتقاله الى دول لا ترضى عنها.
يكمن الارتباك الاميركي إزاء التحدي الكوري الشمالي في عدة نقاط: الأولى ان كوريا الشمالية من اكثر دول العالم عسكرة، اذ ان تعداد جيشها يناهز الـ 1,2 مليون جندي (مع ان عدد سكانها لا يتجاوز الـ 21 مليون نسمة بكثير، ويمتلكون حوالي 11 ألف صاروخ بالستي من طرازات رودونغ المختلفة التي يتراوح مداها بين 300 كيلومتر والـ 7000 كيلومتر، كما يمتلك مخزونات كبيرة من الأسلحة البيولوجية والكيماوية قدرت ما بين 2500 و5000 طن بالاضافة إلى عدة قنابل نووية، وامتلاكها أسلحة تقليدية: طائرات هجومية، مروحيات، مدرعات، دبابات، أسلحة مضادة للدروع والدبابات. باختصار، تستطيع كوريا الشمالية إطلاق نصف مليون قذيفة مدفعية في الساعة على كوريا الجنوبية في حال تعرضها لهجوم أميركي من الأراضي الكورية الجنوبية، وتستطيع، باستخدام صواريخ رودونغ القصيرة والمتوسطة المدى، عزل شبه الجزيرة الكورية عن أي تعزيز عسكري من قبل القوات الاميركية واستهداف سواحل اليابان. وهذا جعل الحصول على تأييد هذه الدول في استخدام أراضيها في الهجوم على كوريا الشمالية مستحيلا. النقطة الثانية: نزعة التحدي التي اظهرتها كوريا الشمالية التي زادت من حرج الموقف الاميركي، فقد كشف مرافقو رئيس الوزراء الياباني الذي التقى الرئيس الكوري الشمالي في يونيو/ حزيران 2002 ان رئيس الوزراء الياباني حذر الرئيس الكوري الشمالي من مغبة التورط في حرب مع الولايات المتحدة قائلا: ان الغلبة فيها ستكون للاميركيين، فسارع الرئيس الكوري الشمالي إلى القول «إن النتيجة لن تكون محسومة. النقطة الثالثة: ما ألمح اليه محللون سياسيون ازاء دور الصين في التحرك الكوري الشمالي. فالصين الجار الكبير والقوي الذي تربطه بكوريا الشمالية اتفاقات سياسية وعسكرية وليس بعيدا عن الخطوة الكورية الشمالية على خلفية إشعار واشنطن بحدود سيطرتها على شئون العالم.
لهذه الاسباب وجدت واشنطن نفسها مضطرة على اتباع الطرق السياسية والدبلوماسية لمعالجة الازمة، وخصوصا بعد تحذير دول الجوار من استفزاز كوريا الشمالية، واعلان استعدادها للتعاطي مع المطالب الكورية الشمالية بايجاب عبر تنفيذ بنود اتفاق العام 1994 بعد ان كانت تعاملت مع بيونغ يانغ بمنطق الاذلال عبر الابطاء في تنفيذ تعهداتها بتقديم مساعدات غذائية ومالية وتأجيلها انشاء مفاعلين نوويين سلميين بدلا عن المفاعلات التي أوقف العمل بها وطالبت دول الجوار (كوريا الجنوبية، اليابان، الصين، روسيا الاتحادية) بالتحرك لمنع تفاقم الازمة، فامتلاك كوريا الشمالية لبرنامج نووي علني يهدد المصالح الاميركية في كوريا الجنوبية وكل منطقة شرق آسيا، ويزيد من تعقيد الوضع هناك، وخصوصا بعد التفجيرات النووية الهندية والباكستانية الاخيرة، في ضوء ما قيل عن قيام باكستان بموجب اتفاق عقد بينها وبين كوريا الشمالية العام 1997، بتزويد الاخيرة بمعدات للطرد المركزي لانتاج اليورانيوم المخصص للاغراض العسكرية مقابل منح باكستان تقنيات صواريخ رودونغ من طراز (ام. ار. بي. ام) لدعم موقفها في سياق التسلح الذي تخوضه مع الهند. وبيع هذه التقنية لايران لمساعداتها في تطوير صواريخ شهاب - 3، وهذا يخل بتوازن القوى في الشرق الاوسط ويضر بأمن (إسرائيل)، ما قد يرتب انفجار بؤر توتر لا سيطرة لواشنطن عليها.
ان افشال واشنطن للمطالب الكورية الشمالية، سيشجع دولا وشعوبا اخرى على تحدي الغطرسة الأميركية والعمل على دفع أميركا للقبول بمرجعية القانون الدولي وتوازن المصالح بين الشعوب
العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ