تدور في لبنان معركة سياسية مجالها الإعلام، وهي معركة قديمة على أدوات جديدة، فبجانب ما يعانيه لبنان منذ انتهاء الحرب الأهلية قبل أكثر من عشر سنوات، من تعثر في الوضع السياسي، يزيده تفاقما تعثر في المجال الاقتصادي، كما أن الجهد الذي يبذله بعض اللبنانيين من اجل إبقاء لبنان مُعوّما في هذا الفضاء الشرق أوسطي المضطرب والمتغير، يُستنزف كثير من طاقتهم في المناكفات السياسية، عدا أن التحديات الداخلية والفئوية تزداد تعقيدا. ويفرض تنفجر معركة الإعلام على مصراعيها، إعادة الجدل من جديد عن دور لبنان العربي في المستقبل.
وإذ أن القرار القضائي الذي اتخذ بمنع البث لقناة (أم تي ي) تم تحت تأثير شُبه سياسية داخلية، فقد تم منع بث برنامج على قناة (نيو تي ي) أو (القناة الجديدة)، بسبب ما قيل عن برنامج معادٍ قد يصب في تسميم العلاقة السعودية اللبنانية المتميزة قيد التحضير، قد أثارا معركة إعلامية، بين الحكومة وموقفها من الأخوات السبع، وهو عدد القنوات الفضائية العاملة في لبنان.
وإذا كان القرار الأول قد اتخذته السلطة القضائية، فان القرار الثاني قد اتخذته السلطة التنفيذية، والقراران يفتحان قضية في لبنان، تتعدى حدوده، التي يقول عنها تنظيم التيار المعارض، إنها أصغر من أن تقسم، واكبر من أن تبلع، ليعود الجدل من جديد عن العلاقة بين ما يبث من لبنان من ترويج، وما يحدث في الجوار العربي، ويفتح النقاش عن دور الإعلام هل هو وسيلة بناء وتصالح، أو وسيلة هدم ومناكفة؟ والاثنان يخرجان الإعلام عن دوره المرغوب.
هناك من يعتقد أن المعركة هي محاولة استخدام وسائل قديمة في فضاء جديد، مختلف كل الاختلاف عن الماضي، فلبنان الذي كانت صحافته ومرابعه الإعلامية في الخمسينات والستينات من القرن الماضي تعني شيئا مهما ومؤثرا إلى حد كبير في الساحة العربية، وكانت مساحة ساخنة للمناكفات العربية وربما الدولية، إلى درجة أن رئيس الجمهورية - هو المرحوم شارل حلو - مازح الصحافيين اللبنانيين مرة بقوله أهلا بكم في وطنكم الثاني (لبنان) لما يشعر به من ازدواجية في الصحافة اللبنانية وقتها التي كانت موزعة القلب والجيب خارج المصالح اللبنانية. لبنان ذاك هو غير لبنان القرن الواحد والعشرين، ليس بسبب تغير لبنان ذاته فقط، ولكن بسبب تغير الفضاء المحيط بلبنان، وتغير المتلقي أيضا، لذلك فإن المعركة الجديدة تخاض بأفكار قديمة.
البعض من القابض على بعض وسائل الإعلام اللبنانية فاتته ملاحظة التغيير، فاعتقد بانه يعيد هذه المرة المناكفات السياسية الإعلامية على شاكلتها الأولى، ولكن ليس عن طريق الصحافة، بل عن طريق البث التلفزيوني.
برنامج (نيو تي ي) الذي كان من المفترض بثه الأسبوع الماضي دفع رئيس الوزراء رفيق الحريري، وكذلك وزير الإعلام غازي العريضي، إلى القول في تصريحاتهما: «إن لبنان لن يكون ساحة لتصفية الخصومات العربية»، وهو قول صحيح بمطلقه، إلا أن غير الصحيح هو أن لبنان لا يستطيع الآن أن يؤدي ذلك الدور، ومن يعتقد بانه يستطيع أن يفعل، فهو يفكر في سنوات مضت.
الدليل على القول السابق إن محطة (نيو تي ي) هي محطة ضعيفة القدرة على جذب المشاهد، وربما أفضل دعاية حصلت عليها حتى الآن هو في توقيف بثها، إلا أنها مثل معظم وسائل الإعلام في لبنان، لن تستطيع أن تؤدي دورا إعلاميا حديثا، وربما باستثناء محطة تلفزيون المنار، التي لها دور يتعدى المناكفات المحلية، فإن الكثير من «الأخوات السبع» تلجأ إلى الترفيهية الذي يقبل عليها المشاهدون خارج لبنان.
لم يعد المشاهد العربي ميالا لمشاهدة محطات فضائية لا تقدم شيء، أو ليس لها شخصية محددة، والتلفزيون في لبنان يواجه صعوبات لن يحلها لجوء البعض، كما كانت الصحف في القديم، إلى محاولة تمويل نفسها عن طريق خلق الإثارة والتحزب، وذلك لسببين أولا لأن الإثارة موقتة، والثاني أن الرفد المالي في مثل هذه الحالات قصير النفس، يمكنه أن يوفر بعض السندويشات، ولكنه لا يشكل وجبة.
لا أحد ضد الحريات، فهي مطلوبة، وإن كان لبنان بمحطاته التلفزيونية السبع، يستطيع أن يحقق هذه الحريات له وللوطن العربي، فذلك أمر مرحب به، إلا أن المعادلة الصعبة تكمن في الموازنة بين الحريات، والأموال الاستثمارية لمثل هذا النشاط الإعلامي، هذه المعادلة الصعبة قد توقع بعض المحطات التلفزيونية اللبنانية للسير في الطريق القديم، الاستزلام أو الابتزاز، وهو دور جرى تخطيه في المنطقة العربية.
الأموال المطلوبة لتقديم بث تلفزيوني حيوي ومشاهد، هي أموال ضخمة، لا يقدم عليها غير دولة، أو صاحب مشروع سياسي كبير لديه فائض ينفقه، والصرف على المحطات التلفزيونية هي مثل إلقاء المال في فرن يأكل ورق البنكنوت بشهوة، وهو استثمار غير مجدٍ من الناحية الاقتصادية، لذلك فإن مثل هذا الأمر يوقع بعض هذه المحطات التلفزيونية العربية في لبنان وخارجه في الحاجة المالية، فتصبح برامجهم الممولة باهتة، وكذلك الحرية المتاحة تصبح عرضة للشراء لمن يدفع، فتفقد الحرية ومن ثم الصدقية التي يرغبها المشاهد.
التعددية شيء جميل ومطلوب في الفضاء العربي بعد سنوات طويلة من الأحادية، وفي المدى البعيد قد يشجع العقل العربي المرتهن إلى رأي واحد ووجهة نظر واحدة، إلى النظر في وجهات نظر أخرى، إلا أن البحث عن التعددية يعيقها الارتهان للمال التمويلي، الذي لا شك في انه يشترط معايير معينة للتمويل الذي يقدمه، كما يفقد المحطات التلفزيونية استقلالها المفترض.
اللجوء إذن إلى الثلاثي القائم على الإثارة السياسية أو الجنسية أو الدينية، هي من الوسائل المرغوبة في بعض هذه المحطات لإثارة الانتباه ولفت النظر، وقدمت إحدى محطات التلفاز اللندنية في شهر رمضان الماضي برنامجا اقل ما يقال عنه انه استفزازي وغير عقلاني لإثارة الخلاف بين السنة والشيعة وبطريقة مقززة، فقط لتسريع جلب التمويل.
النظر في ملكية هذه المحطات وطريقة تمويلها هي التي تحدد مسارها المستقبلي، فان كانت شخصية، بدلا من أن تكون خاصة، خضعت من دون ريب إلى الأهواء والمصالح، ولعل المشروع اللبناني الذي تفكر فيه بعض الأوساط بأن تفتح ملكية هذه المحطات كي تصبح ملكيات عامة، بعيدة عن تحكم الأشخاص وتوجه الأحزاب، هو احد الحلول للحفاظ على التوازن بين التمويل والحريات.
مما يعوق مثل هذه المحطات، وأيضا المحطات التلفزيونية الحكومية، هو أن التدفق الإعلامي، وخصوصا الإخباري لايزال، مثل مصادر الصحافة، ذا اتجاه واحد، من الغرب إلى الشرق، فلم يتكون للعرب، وربما لدول كثيرة أيضا، القدرة على إنتاج المعلومات، فتظل حبيسة تداول المعلومات المقبلة من مصدرها الرئيسي هو الغرب، ووكلات أنبائه ومحطاته التلفزيونية، فيصبح البث العربي مكررا، ومتأخرا زمنيا عن ما سمعه العالم وعرفه.
معركة الحكومة اللبنانية مع «الأخوات السبع» تطرح قضية هي مستقبل البث التلفزيوني المستقل في منطقتنا، وهو ان لم يرشد ويساير العصر، سيأتي آخرون من خارج المنطقة لسد الفراغ.
كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ