ما حدث في شارع المعارض لم يكن وليد تجمع عارض من الشباب الطائش، جاءوا ليحتفلوا برأس السنة وانتهى بهم الأمر إلى السجن، ولا هو عمل مدبر بليل كما أراد البعض التلميح أو التشهير، ولا هي فئة من العاطلين عن العمل المحبطين، ولو كان بالإمكان حصر القضية في هذا الإطار لهانت وسهل أمر تطويقها، ولكن البعد الأخطر هو أنها شهادة فشل مجتمع برمّته تجلى في ضياع جيل كامل. علينا أن نعترف بأنه ثمرة عشرين عاما من التربية المجتمعية الخاطئة، اذ تعرضت مفاصلها الرئيسية للاهتزاز، بيتا ومدرسة وإعلاما... إلى جانب الأبواب المفتوحة مصاريعها على رياح الشمال.
البيوت المهزوزة
علينا أن نعترف أن أركان بيوتنا اهتزت. الأسرة قبل ربع قرن كانت تعيش في الطور الأخير من التماسك الاجتماعي الذي أتت عليه أنماط الحياة الجديدة. العائلة القديمة كانت البوتقة التي يتلقى فيها الأبناء القيم والمبادىء والمفاهيم الأخلاقية ويتشربون المثل والسلوكيات، أما الآن فلم تعد الأسرة جاذبة ولا حاضنة. دور الأب المركزي تراجع، والأم مشغولة في عملها، والجيل الجديد لم يعد يلقى حضنا دافئا يتلقى فيه أساسيات التعامل مع المجتمع. المعادلة القديمة البسيطة في كلماتها والعميقة في مدلولها: «الأب عز والأم عش»... سقطت وتهاوت فيما تهاوى تحت عجلات أنماط الحياة «الجديدة» الصاخبة. بعد ذلك هل نستغرب أن يحدث ما حدث في شارع المعارض؟
المدرسة وتربية «أبناء آدم»
المدرسة كانت تقوم تقليديا بدورين في السابق: التربية والتعليم، وهو ما انعكس في التسمية التي أطلقها الرواد وارتضاها المجتمع للوزارة المنوط بها القيام بأشق عملية تحدث على وجه الأرض، ألا وهي تربية «أبناء آدم»، ولكن إلى أين وصلت مدارسنا؟ ما حدث في المعارض يسجل عجز المدرسة عن القيام بدوريها: فمن جانب تخلت عن الدور الأكبر والأهم: التربية، ومن جانب آخر أصبحت عاجزة عن القيام بواجب التعليم. والدليل هذه الثقة المفقودة بين الأسرة والمدرسة، والذي ينعكس على السعي المحموم لإلحاق الأبناء بالمدارس الخاصة، مع انك إذا حصلت على تعليم أفضل، فهناك شكوك كبيرة جدا في أن تحصل على تربية «خاصة» توازيها. والدليل ما نراه ونسمعه من انسياق قطاع كبير من ابناء جيل هذه المدارس في موجة التغريب والابتعاد عن قيم المجتمع، بل ان بعض من حضر ليلة الواقعة وشاهد بعينيه المشاركين فيها ذهب إلى ترجيح - إن لم يكن الجزم - بأن أبناء هذه المدارس من أوائل المتورطين فيها، بشهادة ما يوحي به مظهرهم الخارجي وقصات الشعر ولباسهم... وهو ما يلقي بظلال كثيفة من الشك على ما يحاول البعض بثه وتشويش الرأي العام والتصيد في الماء الآسن، بإلصاق التهمة بتيار عريض من أبناء هذا البلد الذي عرف عنه الالتزام الديني والأخلاقي. فلا تلوموا من خرج ليفضح فشلنا باعتبارنا مجتمعا، وفشل تربيتنا، وفشل مؤسساتنا العامة والخاصة.
الإعلام الضائع
هذه إحدى ثمار الإعلام الضائع المنفلت، الذي دأب طوال العقود السابقة، على سياسة سائبة ليس لها هدف في الحياة، إن لم يكن الإلهاء والتخدير. ومن الغريب أن تُنظِّر احدى المسئولات السابقات عن الإعلام قبل 18 عاما، (لاحظوا تاريخ الحصاد، واليوم نجني الثمار!) في معرض تبريرها لبث أفلام العنف على سبيل المثال قائلة انه «لم يثبت في الدراسات الغربية ان لأفلام العنف دورا في شيوع العنف بين الأطفال». لا أدري ما هي هذه الدراسات التي استندت إليها؟ مع ان الغرب الذي تستشهد به يناقش اليوم في جدية كيفية تطويق الآثار السلبية التي بدأوا يحصدونها جراء مناهجهم التربوية التي انتهت بهم إلى ضياع الأبناء وتفكك الأسر، وهو ما بدأت أول تباشيره تطل علينا بعض قطراته مما نشهده اليوم.
احد الخطوط الحمراء في مجتمعنا للأسف عدم المساس بحرية «الممارسة» الإعلامية القائمة، فالسياسة الإعلامية المتبعة هي المثلى، وليس من حق أحد الاقتراب إلى حماها أو التجرؤ على بيان نواقصها أو انتقادها. فنحن منذ عقدين أو أكثر، تركنا ابوابنا مفتوحة مصاريعها لكل ما هب ودب. أفلامنا أتفه من التفاهة، مسلسلاتنا في غالبيتها كقطعة اللحم النيئة التي يغص بها المشاهد لكثرة ما شاهدها. والأفلام والمسلسلات البديلة مستوردة من الغرب، وهي نتاج ثقافة تقوم فلسفتها على مفهوم الصراع من أجل البقاء، من مسلسلات الرسوم المتحركة إلى أفلام الويسترن والعنف والجنس، وكل بضاعة مستوردة من دون تدقيق في مدى «صلاحيتها» أصلا. أطفالنا يجلسون إلى «توم آند جيري» و«سبايدر» ويتلقون مفاهيمهم وأسسهم منها، وشبابنا يتلقى تعاليمه من الأفلام التي تروج للعنف والجنس والانحلال والعلاقات «البريئة». والويل كل الويل لمن يرفع صوته محتجا على عرض كل هذا الصديد والقيح الأخلاقي. وبعد أن حدث ما حدث في المعارض يحاولون لصق التهمة بالآخرين، وانما «هي بضاعتكم ردت إليكم». والفضائيات تتفنن في عرض الأجساد العارية، و«فنون الكباريهات» وتنقل لنا ما يقوم به السكارى داخل الحانات، حتى نألفها ويألفها أبناؤنا فيعود الفساد جزءا عاديا من تركيبتنا النفسية كمجتمع، وبعد ذلك نستنكر أن يقوم بعض الشباب المراهق بنزع بنطلون فلبينية في الشارع؟ انكم تتحدثون عن الثمرة وتنسون شجرة الثقافة التي أنبتتها، والسماد والماء المالح والهواء الفاسد والبيئة الموبوءة... فما حدث في المعارض شيء طبيعي لو فكرتم يا سادة، لا يدعو إلى الاستغراب. وإذا استمر الوضع الأخلاقي على ما هو عليه فستسمعون ما هو أكثر من العثور على ملابس نسائية داخلية أو قناني خمر في الجامعة، واعتداء على أعراض الأطفال، وطرد اثنين من أتباع قوم لوط من وزارة العدل لانهما أرادا توثيق زواجهما رسميا! وزواج اثنين آخرين في أحد فنادق البحرين! وما سيأتي أكثر وأكبر، فمن يزرع الشوك لن يحصد الزهور والرياحين. وطريق الموبقات والتراخي الأخلاقي لا ينتهي إلى تخريج أفواج من المؤدبين والمهذبين.
ثعابين الصحافة
على أن الفاجعة الكبرى في كل ما حدث هي محاولة البعض العودة بالبلاد إلى الوراء، وهم من يعيشون بعقليات القرن الماضي، والذين فرخوا في ظل قانون أمن الدولة، واكتسبوا الشهرة والجاه و«العز». فتراهم يعيشون في حنين مرضي للعودة إليه، بعد أن أفلسوا وما عاد لديهم ما يعرضونه من بضاعة كاسدة للشعب غير العزف على الأوتار المقطوعة. أصحاب عقليات القرن الماضي لا يدركون أن ما حدث في شارع المعارض هو شهادة رسوبنا، ولذلك يرتكبون خطأ فادحا، بل جريمة كبرى في حق الوطن الذي لم يصدّق الخروج من عنق زجاجة «أمن الدولة»، فيحاولون إثارة الغبار والشبهات، واللعب بنار الطائفية البغيضة... وذلك دأبهم الذي لم ينسه الشعب بعد، فله مع هذه الفئة من حملة الأقلام تاريخ طويل من الكتابات المريضة التي تنفث السم الناقع والبغضاء والضغينة، ويدفع فاتورتها الباهظة الوطن وأبناء الوطن.
التحليلات «المدبرة بليل»
إن من مساوئ التحليل المسبق أو «التحليل المدبر بليل» هو أنه لا يرى الواقع ويبحث عن الأسباب، لأنه اعتاد الصدور عن «شحن» و«تعبئة» مسبقة، يريد أن يقذف بالاتهامات الرخيصة والتهم الباطلة في وجه «الآخر» كما اعتاد لمدة عشرين عاما أو أكثر. فهكذا اعتاش، وهكذا يحلم أن يعيش بقية حياته. والأمانة تقتضينا القول إن ما حدث في شارع المعارض انما هو حلقة من حلقات متداخلة كتروس الساعة، ولا يمكن رصد احدها بمعزل عن الآخر. فهناك سرقات واعتداءات وحوادث مرورية قاتلة كل يوم... ولكن ميزة المعارض هو أنها كانت الصرخة الأعلى، انها البركان بعد أن تفجر وقذف بالحمم، مع اننا كنا نسمع فحيحه من قبل، وقد تناهت زمجرته إلى الآذان، ولكن لم يكن أحد يريد الاستماع.
همسة الختام
الأمانة تقتضينا باعتبارنا محبين للوطن، أن نبحث عن الأسباب، فهي لم تكن وليدة اليوم، ولن تنتهي غدا، حتى لو استمعت الداخلية لدعوات البعض المكرورة بـ «الضرب بيد من حديد»، أو فتحت السجون أبوابها لابتلاع أبناء هذا الجيل الضائع، فهو جيل من الضحايا قبل أن يكون جيلا من المخربين والمجرمين. أقول هذا دون أن يفهم أحد أني أقصد رفع العقوبة عمن أساء الأدب. وما حدث في شارع المعارض لم يكن وليد تجمع عارض من الشباب الطائش، ولا هو عمل مدبر بليل، ولا هي فئة من العاطلين عن العمل المحبطين، وإنما هي شهادة فشل مجتمع برمته
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ