مراقبة المشهد الدولي عشية الاستعدادات الأميركية لخوض حرب محتملة في الأسابيع المقبلة تستحق القراءة السريعة لمعرفة خلفياتها السياسية.
المشهد يشير إلى وجود عودة لنوع من الاستقطابات الدولية قريبة من تلك الصورة التي سادت فترة السبعينات من القرن الماضي.
الصورة قريبة من تلك الفترة وليست متطابقة. آنذاك كان الانقسام الدولي أكثر وضوحا بسبب وجود دولة كبرى منافسة كانت تدعى الاتحاد السوفياتي. وبسبب تلك الدولة كانت الاستقطابات متبلورة في صيغة ايديولوجية تجعل القراءة السياسية أكثر بساطة مما هو عليه الأمر اليوم.
اليوم تبدو صورة الاستقطابات أكثر تعقيدا إذ تختلط فيها الايديولوجيا بالمصالح، والطموحات الدولية بالنفوذ الإقليمي.
في أميركا اللاتينية، مثلا، هناك نمو متزايد لنوع من محاولة التمرد على الهيمنة الأميركية، فكوبا استمرت على مقاومتها للحصار، والرئيس الفنزويلي يواصل تحديه للضغوط، بينما نجح الرئيس البرازيلي (لولا) في تسلم مقاليد السلطة من دون إثارة المخاوف والاضطرابات في السوق المالية. ويتوقع، في حال توصل الدول الثلاث إلى صيغة اتفاقات مشتركة، تشكيل قوة متمردة من الصعب على واشنطن تجاهل تأثيراتها، كذلك ليس سهلا عليها تركها من دون معالجة.
إلا أن مشكلة الإدارة الأميركية اليوم هي عدم وجود تهمة جاهزة لإلصاقها بتلك الدول كما كان يحصل في فترة السبعينات حين كان التنافس مع موسكو على قدم وساق. والمشكلة الثانية ان مثلث الشر (تشيني، رامسفيلد، رايس) يركز انتباهه على دول آسيا الوسطى والشرق الأوسط ويرى ان تلك المنطقة الحيوية والاستراتيجية تشكل الآن وإلى امد قلب العالم ومن يسيطر عليه ينجح في السيطرة على قرار الطاقة (النفط) ومناطق استخراجه وخطوط امداده ونقله.
هذا التركيز الأميركي على مناطق محددة يعود إلى عدم وجود مخاطر دولية، كتلك التي كانت في الفترة السابقة، الأمر الذي يعطي واشنطن فسحة من المناورة وإهمال بعض المناطق التي هي برأيها أقل أهمية من الناحية الاستراتيجية.
إلا ان ذلك الاهمال المؤقت لا يعني ان الدول الكبرى ستقف مراقبة تحولات الوضع من دون ان تطالب بحصتها أو على الأقل الضغط في أمكنة معينة للمقايضة بها في أمكنة اخرى.
روسيا، مثلا، بدأت تقلق على حدودها السياسية بعد ان نجحت أميركا، في حربها ضد أفغانستان، في السيطرة على مناطق حيوية تمتد من غرب الصين إلى شرق أوروبا. فواشنطن بعد اسقاط نظام «طالبان» عقدت سلسلة اتفاقات أمنية تشرع وجودها العسكري في الدول الواقعة على حدود موسكو الجنوبية. وهذه السلسلة من الاتفاقات بدأت تضيق الخناق على المجال الحيوي للكرملين وطموحه التاريخي إلى وجود منفذ بحري لقواته وتجارته.
الصين، مثلا، بدأت بدورها تقلق من تمركز بعض القوات الأميركية في قواعد عسكرية بالقرب من حدودها الغربية أو تلك المطلة على الهند ودول آسيا الوسطى. فالوجود الأميركي في تلك المناطق الحيوية يعطل طموحات بكين أو على الأقل يعرقل حاجتها إلى طاقة النفط التي تتزايد سنويا بسبب نموها الاقتصادي الثابت والمستمر منذ أكثر من ثلاثة عقود.
مراقبة المشهد الدولي تعطي فكرة موجزة عن التحديات التي ستواجه واشنطن في المستقبل، حتى لو نجح «مثلث الشر» في كسر العراق والسيطرة عليه وإثارة البلبلة وعدم الاستقرار في دول الجوار الجغرافي لبغداد. فالمسألة تبدو سهلة عسكريا إلا انها صعبة سياسيا بوجود قوى دولية تريد حصتها أو على الأقل تطمح إلى المقايضة. مثلا روسيا بدأت بالتحرك على حياء فأخذت ترد على الضغوط الأميركية بوقف تعاونها في إنتاج الطاقة النووية مع إيران بالطلب إلى واشنطن فرض رقابة دولية على إنتاج «اسرائيل» أسلحة الدمار الشامل والصواريخ البعيدة المدى التي تطول حدود موسكو ومدنها الجنوبية.
الصين بدورها بدأت تتحرك في الظل من طريق إثارة الملف النووي في كوريا الشمالية. فبكين التي ترى في كوريا منطقة نفوذها التقليدية لا تستطيع الاستمرار في قبول التمدد الأميركي في المنطقة من خلال ابتزازها وإثارة قلقها الأمني انطلاقا من جزيرة تايوان (فورموزا). فالصين تريد المقايضة من خلال فتح ملف كوريا الشمالية. فالأخيرة هي البديل عن الأولى (تايوان) أو على الأقل يمكن بحث المسألة في ضوء المصالح الصينية في الجزيرة وشبه الجزيرة (كوريا). كذلك روسيا تريد المقايضة من خلال فتح ملف التسلح النووي الإسرائيلي الذي بات يهدد معظم دول جنوب القارة الأوروبية إضافة إلى حدودها الجنوبية.
تستعد أميركا لخوض حرب تدميرية في الأسابيع المقبلة. ويرجح أن تنتصر عسكريا في أقل من شهر. إلا أن الانتصار العسكري لا يعني كسب المعركة السياسية. فالجيوش تنتصر بالقوة إلا أن السياسة لا تؤخذ بالقوة. فالسياسة في معناها الدولي مساومة والمساومة تعني توازن المصالح؛ أي مقايضة المواقع والتوزيع العادل للحصص
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ