العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ

أزمتنا في التعامل مع الأزمات

سيد كامل الهاشمي comments [at] alwasatnews.com

لعل أهمية أية أزمة اجتماعية أو سياسية لا تكمن في حجمها ومقدار ما تفرزه من خسائر مادية، فتلك أمور مهما عظمت يمكن أن تعوض وتستعاد، ولكن الأمر الأهم في أية أزمة يواجهها المجتمع أو الفرد هو طبيعة الاستجابات وردود الفعل التي تقدم من قبل جميع الأطراف المعنية بالأزمة من قريب أو بعيد، التي تشكل في كثير من الأحيان في حد ذاتها أزمة جديدة تكمل وربما تؤصل المسار الخطأ الذي مثلته الأزمة الأم.

وهذا بالضبط ما أعتقد أنه حدث في مجتمعنا البحريني الصغير منذ اللحظة الأولى التي تلقى فيها الجميع نبأ الحوادث المؤسفة التي وقعت في شارع المعارض في ليلة رأس السنة الجديدة، فبدلا من أن يتريث الجميع في استصدار الأحكام وابتداع التحليلات التي تتجاوز ما قيل حتى عن خلفيات 11 سبتمبر/ أيلول العام 2001 في الولايات المتحدة، فإن الكثير منا أطلق العنان لخياله لكي يحلل ويربط بين أمور لا ربط بين بعضها بعضا إلا في مخيلته التي لا تنقصها قدرات التخيل والوهم، ولكن تنقصها قدرات الربط المنطقي والتحليل العلمي للأحداث والأزمات. ولكن هذه التخيلات كلها تهون في قبال تلك التصريحات والكتابات اللامسئولة واللاواعية التي انطلقت من أفواه وأقلام البعض، والتي بادرت إلى ربط الماضي بالحاضر بلا أي دليل، وبحثت عمن تلقي عليه عبء المسئولية من أجل أن تريح تفكيرها في عناء البحث والاستقصاء، الذي يتعبها كثيرا، وهي التي لم تعتد على التفكير الطويل والتأمل العميق في مجريات أي حدث تواجهه لما تفتقده من قدرات علمية ومعرفية، يستدعيهما بالضرورة إنجاز مثل هذين الأمرين.

وإذا ما أردنا أن نأخذ بالتعريف الذي يتبناه البعض من المفكرين والفلاسفة للعقل وهو القدرة على استخلاص النتائج من التجارب ووضعها ضمن قواعد كلية، فإنه يحق لنا القول إن الكثير من «الكبار» فضلا عن «الصغار» في مجتمعنا يفتقدون «العقل»، وافتقاد العقل في مواجهة الأزمة مهما كانت تلك الأزمة معناه التخبط والضياع وعدم القدرة على الخروج من الأزمة، بل ربما استلزم افتقاد العقل بهذا المعنى معاودة الوقوع في الأزمة المرة تلو المرة، على رغم تكرارها ومعرفة نتائجها المترتبة عليها جيدا. وهذا بالضبط ما عناه القرآن الحكيم حينما تحدث عن طبيعة المنافقين والكافرين الذين يفتقدون هذا العقل في مواجهة أية أزمة تمر بهم، فقال عز من قائل: «أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذّكَّرون»، (التوبة 126).

فالأزمة حينما تتكرر في المجتمع ـ كما حصل بالنسبة إلى الأزمة الأخيرة والمعنية بالذات، والتي تكررت خلال الأعوام الأخيرة ضمن مستوياتها الأولية والتي كانت تحمل في باطنها بذور أزمة شارع المعارض ـ من دون أن يستطيع المجتمع عبر مختلف شخصياته ومؤسساته أن يرصد جذور الظواهر الخاطئة التي تستفحل يوما بعد يوم، وتكبر تحت السطح من دون أن يشعر بها من يكتفون بالنظر إلى ظواهر الأمور، فإن ذلك يعني أحد أمرين:

إما أن المعنيين بمواجهة الأزمة في المجتمع هم بمستوى من السذاجة والغفلة بحيث يقصرون عن التنبؤ بالظواهر غير السوية في المجتمع ورصدها قبل استفحال أمرها وشيوع خطرها، والمبادرة بوضع الحلول الجذرية لمواجهتها واستئصال شأفتها، ومثل هذا الأمر مصيبة لا يمكن التجاوز وغض النظر عنها في أداء أية جهة اجتماعية أو سياسية تتحمل مهمة ومسئولية حتى لو كانت صغيرة في المجتمع.

وإما أن يعني ذلك أن البعض من المعنيين بالأزمة ـ وهي المصيبة الأدهى والأمرّ ـ يفكرون في عائد ما من وراء الأزمة، فلأجل ذلك يتغافلون عن أسبابها مع علمهم تماما بها، وبما يمكن أن تحدث الأزمة من تداعيات في أداء السلطة والمجتمع على السواء، وهذا الاحتمال الثاني يفتح أذهاننا لتفهم مسارات سياسية ينتهجها بعض الساسة في عالمنا الحديث والمعاصر تقوم على مبدأ ضرورة اختلاق الأزمات وتوظيفها من أجل الحصول على مكاسب محددة ومعدة سلفا، وتقوم استراتيجية افتعال الأزمات على قاعدة الرغبة في التحكم بسلوك الخصم وتوجيهه، ومن ثم استثماره لصالح الطرف المقابل، وهو ما يندرج ضمن ما يطلق عليه في علم الإدارة السياسية المعاصرة بـ «آليات الردع والتحكم بسلوك الخصم».

وعلى رغم التباين الواضح في دوافع وسلوكيات كلا الطرفين، فإنهما في المحصلة النهائية تتكامل أدوارهما في إفساح المجال للأزمة لكي تتواجد أولا، وتتفاعل ثانيا، وتثمر ثالثا، ومن هنا فإن المشكلة البسيطة والعابرة التي تتحول إلى أزمة كبيرة ومستفحلة في أي مجتمع لابد أن تتوافر على عنصرين تعشعش في أحضانهما وتتربى في أجوائهما، وهذان العنصران هما: السذاجة والخبث، الخبث من جهة من يفتعلون ويذكون نار الأزمة في المجتمع الهادئ المطمئن، والسذاجة في من يعجزون عن الربط بين الأسباب والمسببات فيقعون في براثن الأزمة ويكتوون بنارها، وهذان العنصران لأنهما غالبا ما تتشكل الأزمة بحضورهما معا وتكامل دوريهما في تحقيقها، فإن القرآن الكريم كان يقرن بين موقفيهما في الكثير من الأحوال، فحينما يتحدث عن فرعون وما مارسه من تضليل وإضلال يربط بين هذا الأمر وبين الممارسة التي أبداها قومه في تعاملهم مع هذا التضليل والإضلال الفرعوني والتي أبدت استجابة غير ضعيفة مع الدور الفرعوني في افتعال الأزمة، إذ يقول تعالى: «فاستخف قومه فأطاعوه إنهم كانوا قوما فاسقين» (الزخرف 54)، فالجريمة الاجتماعية أو ما نسميه الأزمة لم تكن لتكتمل لو أن أحد الدورين من الاستخفاف والطاعة كان قد حصل فحسب، ولكن لأن فرعون استخف قومه، وهم أطاعوه واستجابوا لاستخفافه بهم وبعقولهم فقد اكتملت عناصر الأزمة والجريمة الاجتماعية. وفي مجتمعنا المسلم حينما يقوم البعض بافتعال الأزمات من الواجب علينا ألا نكون شركاء في الجريمة وجزءا منها من دون أن نشعر، وهذا بالضبط ما نصح به الباري عز وجل عباده المؤمنين في ما يريدون اتخاذه من موقف في مواجهة أية أزمة مفتعلة، فقال مرشدا عباده المؤمنين إلى الموقف الصحيح والصائب في مواجهة الأزمة في ما حكاه من قضية الإفك المفتعلة تجاه أم المؤمنين عائشة (رض)، إذ قال سبحانه: «إن الذين جاءوا بالإفك عُصبة منكم لا تحسبوه شرا لكم بل هو خير لكم لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم والذي تولى كبرهُ منهم له عذاب عظيم. لولا إذ سمعتموه ظنَّ المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرا وقالوا هذا إفك مبين. لولا جاءوا عليه بأربعة شهداء فإذ لم يأتوا بالشهداء فأولئك عند الله هم الكاذبون. ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسَّكُم في ما أفضتم فيه عذاب عظيم. إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علمٌ وتحسبُونهُ هينا وهو عند الله عظيم. ولولا إذ سمعتموه قُلتُم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بُهتانٌ عظيم. يَعِظُكمُ الله أن تعودوا لمثله أبدا إن كنتم مؤمنين» (النور 11 ـ 17).

ومن أجل أن نستثمر الأزمة ونقطع الطريق على الذين افتعلوها وتولوا كبرها أولا، وأرادوا استثمارها وتوظيفها ثانيا علينا أن نحول الأزمة مهما كانت كريهة ورائحتها منتنة إلى تجربة نستفيد منها الدروس ونتعظ بمجرياتها ونتفهم أسبابها، وليس هذا ببدع من القول ولاسيما إذا ما علمنا أن ما يسمى بـ «علم إدارة الأزمات» إنما نشأ وأصبح تخصصا أكاديميا وعلميا مستقلا له قواعده وأصوله على اثر حل أزمة الصواريخ الكوبية في العام 1962. وهي الأزمة التي دارت فصولها بين الولايات المتحدة من جهة، وبين كوبا ومن ورائها الاتحاد السوفياتي السابق من جهة أخرى، وفي هذا الشأن يتحدث الحملاوي في كتابه «إدارة الأزمات» بالقول: «علم إدارة الأزمات نشأ على إثر أزمة نصب الصواريخ الروسية من قبل الاتحاد السوفياتي في كوبا في العام 1962، وهي الأزمة التي حبس العالم من أجلها أنفاسه خوفا من اندلاع حرب عالمية بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة. وتكمن أهمية هذا الحدث في تصريح وزير الدفاع الأميركي آنذاك بقوله: لن يدور الحديث ـ بعد الآن ـ عن الإدارة الاستراتيجية، وإنما ينبغي أن نتحدث عن إدارة الأزمات. منذ ذلك التاريخ في الحقيقة بدأ اهتمام كبير جدا بهذا الفرع من فروع الإدارة».

فهل لنا أن ننطلق من خلال أزماتنا لتطوير واقعنا عبر نقده وتفهم أسباب الخلل والخطأ فيه، بدل الانشغال باجترار الاتهامات والبحث عن ذرائع لإلصاق التهم جزافا بجهات اعتدنا على تحميلها مسئولية كل خطأ يحدث، وعجبي مازال لا ينقضي من بعض المسئولين والمعنيين بالأمر الذين يرفضون تغيير اسطواناتهم المشروخة على رغم تغير كل الأجهزة التي يمكنها تشغيل تلك الاسطوانات البالية والمتهالكة، والتي ما عاد حتى بالإمكان إجراء عملية تطوير وتحديث لها، لأن صلاحيتها قد انتهت إلى الأبد، ولم يبقَ لها من محل سوى مزابل التاريخ لتستريح فيها وتريح الآخرين من صوتها النشاز.

إن من عجزوا عن تفهم وحل مشكلات شبابنا في السابق لهم اليوم أكثر عجزا من أن يستطيعوا تقديم شيء يستحق الاحترام والتقدير للفئات الجديدة من الشباب التي تنساب في متاهات الضياع وفقدان الهوية في ظل سياسات التنمية والترفيه التي ادُعي في السابق تطبيقها والعمل عليها، ولكن الأيام كانت كفيلة بأن تكشف أنه لم تكن هناك حتى ولا خطة سياسية تنموية واحدة لاستيعاب الشباب المتدين، فضلا عن الشباب المنفلت والمتهور، وفي الوقت الذي كان البعض يتخوف طوال السنوات السابقة من عنف الشباب المتدين كشفت حوادث رأس السنة الميلادية في شارع المعارض أن الشاب المتغرب والمنفلت من عقال الدين والقيم هو أكثر خطورة على المجتمع والدولة على حد سواء من أي شاب متدين، هذا إذا ما سلمنا بأن الشاب المتدين حقا يمكن أن يمثل ولو في لحظة معينة خطورة ما على مجتمعه وأمته

إقرأ أيضا لـ "سيد كامل الهاشمي"

العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً