العدد 123 - الإثنين 06 يناير 2003م الموافق 03 ذي القعدة 1423هـ

الشاعرة فوزية السندي تغني لشهداء الوطن

المنامة - عبدالله جناحي 

تحديث: 12 مايو 2017

للشاعرة فوزية السندي قاموس شعري مفعم بالأحاسيس التي ما ان تنطلق من كلماتها ولغتها فإذا بك تحس بروح خفية تحوم حولك، تهزك، بل وتخنقك، تتلمس بحواسك الخمس مكامن الألم في القلب والروح والجسد، آهات القهر والعذاب، صرخات الكبرياء والغرور المشروع والاباء والشماء وهي ترفع راية التحدي على رغم الانكسارات، وهل هناك أقوى من أن ترى بنظرك الألم وأنت تقرأ الكلمات. وهل هناك ألذ من أن تتذوق بلسانك ملوحة الدمع المنسكب بهدوء من حروفها، وهل هناك راح أشهى في سكرها من أن تلامس كفيك، بل وخديك، وفي معظم الأحيان شفتيك طعم الرغبة المكبوتة وهي تنفجر من بين انحناءات جسد النص والتواءاته...

هذا على صعيد نصوصها المنشورة في الدواوين، ولكن أن تتجمع كل هذه الأحاسيس، الانطلاقات، الأرواح، الراح، الاختناق، الألم، الآهات، القهر، العذاب، الصرخات، الكبرياء، الغرور، الشماء، التحدي، الدموع، الـ ... الـ... الـ ...

في نصوص متناثرة تحت صور الشهداء، وما أكثرهم وأروعهم وفي جزيرة صغيرة لا تراها سوى خرم ابرة صغيرة في خريطة الكوكب. فقد أصدرت «جمعية العمل الوطني الديمقراطي» روزنامة لسنة 2003م هي بمثابة توثيق رائع لشهداء الوطن منذ انتفاضة مارس/آذار المجيدة العام 1965، مرورا بشهداء العمال في مصانع الموت في مطلع السبعينات، ثم شهيد الطبقة العاملة المناضل محمد بونفور وأول شهداء ما بعد صدور قانون أمن الدولة الشهيدان محمد غلوم والشاعر سعيد العويناتي، وشهداء الثمانينات ابتداء من جميل العلي (1980) ثم هاشم العلوي (1986)، ثم كوكبة من الشهداء منذ 1980 الى 1986، ثم كوكبة أخرى من شهداء الحركة الدستورية 1995 الى 1997 وأخيرا شهيد فلسطين العربية محمد جمعة في ابريل/نيسان 2002م.

روزنامة من تصميم وتنفيذ الفنان الذي يعمل بهدوء لذيذ مع كل بادرة وطنية لتصميم ما يحقق حلم هذا الوطن الذي تحقق ويعيد بريشته تارة وبتصميماته تارة أخرى كتابة التاريخ، الفنان جمال هاشم.

الشاعرة فوزية السندي نثرت نصوصا تحت صورة كل شهيد، تقرأها فترى أمامك القمع والاستشهاد والرمق الأخير وصمود الشهيد والقبر...

تبدأ بنص على الغلاف الرئيسي للروزنامة اذ صورة الشهيد محمد بونفور بلونها الأزرق وبؤبؤي العينين اللامعتين، ونص يقول:

«للقبر تراب يعجز المعول عنه، كلما استطال به الحفر، كلما استعر نحو بلاء جسد يتعالى بلا حفرة تكفيه».

أي جسد هذا الذي يسمو ولا يكفيه قبر ولا تستطيع معاول الجلادين ان تغطي العار الذي صبوه على ضمائرهم وتاريخهم حتى قيام الساعة، أي جسد يحمل هذه الدلالات سوى جسد الشهيد.

وخلف هذا الغلاف الذي يعيدك الى ماضٍ عظيم ونضال كبير في زمن قحط وقمع كبيرين تقرأ مقطعا لنص طويل، مشروع قادم من أعمال ورؤى الشاعرة بعنوان «ذاكرة المخبأ» مخبأ الشهيد بونفور وهو هارب من قبضة جلاديه، ذاكرة البيت، الغدر، الخيانة، الدم الذي تشظى في كل مكان، حي قديم، درب أليم في محرق السبعينات.

يناير/كانون الثاني

شهر خصص للقافلة الاولى من شهداء هذا الوطن، كوكبة من رجال شاركوا في انتفاضة مارس المجيدة العام 1965، اذ استشهدوا برصاص الانتداب البريطاني وهم ينادون بالحرية، والاستقلال، شهداء من كل قرى ومدن البحرين، عبدالنبي سرحان وعبدالله سرحان وعبدالله الغانم وفيصل القصاب، وجاسم خليل وعبدالله بولوده.

تهمس فوزية قائلة:

«ذات - قتلوهم واحدا واحدا وأخفوا الجثث في هواء بارد، ولم أكن وحدي - موت».

فيما يحاول المجرم إخفاء جريمته ويراه الشاعر... صوت الحاضر ووثيقة المستقبل ولم يكن وحده، فهل تبقى الجريمة مخفية أمام الأجيال المقبلة.

فبراير/شباط

صورة أخرى للشهيد بونفور الذي استشهد في الثالث من يوليو/تموز 1973، ونص فوزية السندي يصرخ تقول: «إنك أول القتلى، انك آخر القتلى، في جرأة هذا الجحيم، فمن أنت؟ مدفع يصول في صرعة القول، امام عدالة تجتبي خراج السطوة، وتراهن على ركعة الفتوى، أم خنجر ينحت هيكل الأرض، هاتكا عظم العرش، قبل أن يصل الى غمد الحنجرة».

أي خنجر هذا الذي يعيد صوغ الأرض؟ أي بطل هذا الذي يمارس أسطورة هدم الهيكل - العرش وهو يعي طريق موته مانعا وصول الخنجر الى غمد وقلب شعب يحلم «أي بطل اسطوري يصول سوى الشهيد».

مارس/آذار

شهر خصص لشهداء الطبقة العاملة الذين ماتوا تحت تروس مصنع الموت في السبعينات منذ 1972 وحتى 1975، كوكبة من شباب هذا الوطن كانوا يحلمون بخبز حلال، يبيعون قوة عملهم لوحش لم يكن يرحم، سلطان حافظ أحدهم، وهو الذي أثار أحاسيس شعراء الوطن فكتبوا قصائد مؤلمة عنه، الشاعر قاسم حداد وعلي الشرقاوي وعلي عبدالله خليفة، والفنان عبدالله يوسف لم يتمكن سوى أن يعبر بريشته عن شهادة صديقه سلطان، فخلق لوحة (اليد) أول لوحة كولاجية المضمون في البحرين بحسب معلوماتي المتواضعة في الفن التشكيلي البحريني، ماذا قالت فوزية لذلك العهد السبعيني؟ عهد العمال ونضالاتهم...

«تذهلني قطرة دم تتغلغل في رايات القلب، بصدر العمال المزروعين كصوت الأرض، ترس يتحرك والألم يحرك كل تروس الوقت، يئن وينزف حشرجة تتصاعد في الدم، عرقا يتقاطر في جرح رفيق يذهل رفقته ويموت، ليكبر مثل سؤال في القبر» أي لون فاقع الاحمرار تراه وانت تقرأ هذا النص المذهل، قطرة دم، راية قلب، صدر، ألم، نزف، حشرجة، دم، جرح، موت، قبر... أي جذر عميق هذا ليتحول الى صوت لأرض تتعذب» أي موت مؤلم تتقطع العروق وتتمزق اللحوم بين تروسه، ويبقى السؤال خالدا، مثل خلود الشهداء.

ابريل/نيسان

كذبة ابريل تجسدت في مسرحية قصد منها خداع الشعب، كذبة مؤامرة ذهبت من ورائها ضحايا كثيرون، منهم شاعر رقيق كان يحلم بوطن يرقص مع أحلامه، الشهيد سعيد العويناتي ومواطن هادئ متواضع عاشق لهذا التراب وشعبه، الشهيد محمد غلوم بوجيري، صورتان بعينين تنظران الى العلا، بشماء وكبرياء وحب، محمد رحل عنا في الثاني من ديسمبر/كانون الاول العام 1976 وبعده بعشرة أيام فقط رحل رفيقه الشاعر العويناتي، وقالت فوزية عليهما صرخة «لم يعد الموت كافيا لننسى... ولا الدم الذي يحتضن الضحايا أخرس لنسأل...» صرخة لا داعي لشرحها... فالسؤال يبقى قائما مثل شموخ الشهداء.

مايو/أيار

صورة الشهيد جميل العلي، صديق عرفته في منتصف السبعينات، كنا شلة من الاصدقاء منهم من منع من تكملة دراسته الجامعية، ومنهم العامل والموظف، نتجمع في ساحة مغلقة من فريق سوار... وكان يزورنا بين الفينة والأخرى من المخارقة كان يعرفنا واحدا واحدا، عفويا، قويا وكان من ذلك الصنف البشري المعروف في الستينات والسبعينات من القرن الماضي، اصحاب القبضات من الفتوة المعروفين في الاحياء الشعبية، الذين يلجأ اليهم الاصدقاء امام أي تهديد خارجي من حي آخر مجاور، كان شعبيا، بسيطا، لا يفرق بين الناس والاصدقاء، وابتعدنا بعد ذلك لفترة، وخصوصا إبان الثورة الايرانية وانعكاساتها الفكرية والايديولوجية على جيل شبابي في هذه الجزيرة، كان ينمو ويتطور فكريا واجتماعيا بحسب معطيات الواقع السياسي آنذاك، فإذا بهذه الثورة الشعبية تعيد الموروثات وتفجر المسكوت عنه من اللاوعي ويطفح على الوعي والممارسة حلم كانوا يرون تحقيقه أقرب من حبل الوريد... فتحمسوا وآمنوا وأزالوا عن ذاكرتهم كل الثقافات لتحل محلها ثقافة جديدة، ووعي جديد، وكان جميل من هؤلاء المتحمسين، المتفاعلين في الحدث اليومي، ولأنه مازال يحمل في سلوكه قيم الفتوات، فكان قائدا شعبيا، عنيدا، مناضلا على رغم بساطته، ولم تجد الشاعرة أمام هذه الصورة سوى أن تقول «لم يجد السيف فأشهر جسده» بداية نضال المجاهدين، التراكم الاول حينما تقوم الانتفاضة الاحتجاجية سلمية فيبادر الابطال الى أن يحولوا جسدهم الى متاريس، وهل غير الشهداء يفعلون ذلك.

يونيو/حزيران

صورة أخرى لشهيد التقيته وتحدثت إليه ورأيته مع الاصدقاء في معظم الفعاليات الطلابية وأحيانا الرياضية، هو الشهيد هاشم العلوي، لم يكن ارهابيا ولا مجرما ولا قاتلا ولا مخربا، كان انسانا يعي انسانية الانسان، كان طبيبا، كان يجاهد مع مئات الاطباء في اضفاء بسمة على شفاه طفل وأم وأب وأسرة، ولكنه كان مبدئيا، ملتزما بقضية شعبه وأحلامه الوطنية ولذلك لم يتمكن الجلادون من استيعاب ذلك، ولأنهم وضعوا كل الوطنيين في مصاف الارهابيين، بل اعتبروهم هم الارهابيين والارهابيين وطنيين، فقتلوه... تقول الشاعرة فوزية نصها المعبر «لا منصة للنصر، لا ملجأ للنجاة، أمامك يتسعون، وخلفك يتسعون، ووحدك في نجمة البحر، في جوهرة القبر، تتسع محتضنا، انشطارك الأول والأخير...».

أي غواص ينطلق نحو جوهرته ويمد رقبته في جوف سمك قرش باحثا عن حلمه محتضنا مبادئه، أي كائن يفعل ذلك غير الشهيد؟

يوليو/تموز

شهداء الثمانينات، كوكبة من المؤمنين بفكرة، وحلم، مهما اختلف معهم الآخر المهيمن فلا يحق له أن يزهق الروح بهذه الوحشية، لهم حقهم ولكم حقكم في العقيدة والرأي، وكلما يقمع حلم جمهور، يتحول هذا الجمهور الى جمرة، جحيم لا ينطفىء... هكذا انطلقت فوزية السندي وهي تتأمل وجوها شابة رحلت عنا، ولو كانت معنا لكانة مثلنا كلنا... في حال من التغيير الدائم... قالت:

«جمهرة من الجمر تشظى فصاحة الشعار، جحيم يعري جنة الناس وجرأة النسيان... نار ليست للرماد...» أية نار هذه التي لا تنطفئ أبدا، لن تتحول الى رماد، أي وقود أزلي هذا الذي يترك للنار الدوام، غير روح الشهداء.

أغسطس/آب

أي ألم يهاجم روحك وقلبك وانت تتأمل عيون شهداء أعمارهم لا تتجاوز سن المراهقة، أي حلم قتل، أية جريمة مورست بحق جيل نرفع الرايات ونصدح في الصباحات وعلى الأوراق صراخا بأننا في خدمة تنميتهم، أرجوكم أيها المسئولون، أناديكم أيها الجلادون، أطالبكم يا من رفع يوما سلاحا على هذه الارواح، تأملوا صورهم، وجوههم، ابتساماتهم، فضاء الغد المقبل والحلم في عيونهم... ألم يكن هناك طريق آخر غير زهق أرواح تقف أمامها شاعرتنا صارخة...

«لم تكن وطنا، بل ذاكرة تصهل فيها صلادة الصبر، وقتا من القيد والقتل، تاريخا من نهضة الدم».

أوطن هذا يقوم تاريخه بدم فتيانه؟ ولكن أي صهيل صلد صبر، غير صلاة الشهداء التي لا تنتهي.

سبتمبر/أيلول

كوكبة شابة من الشهداء، تتأملهم شاعرتنا أجسادا نقية بأكفانها ترفع عاليا، لتصرخ المقابر والشواهد من فائض الدم، معلنة جريمة الاغتيال تقول: «نقاوة أجساد ترفع اكفانها عاليا، آن لها ان ترث الشواهد، وتحرض صمت المقابر بعنف التراب، بكل قطرة دم تنحدر من كل شهيد، لتعلو على غيلة الاغتيال» وهل يوجد جسد أنقى من جسد الشهيد؟

أكتوبر/تشرين الاول

في السابع عشر من ديسمبر، أي بعد يوم واحد من العيد الوطني للبلاد، يسقط الهانيان شهيدين في يوم واحد، هاني الوسطي وهاني عباس، أية فجيعة تصيبك وانت في المقبرة تتأمل الوجوه وتستشف ما في القلوب وثورة الروح في اعماق الرفاق والاقارب وحتى الغرباء، أي قهر يصيبك، أي هذيان والى أي تطرف يقودك المشهد، هكذا تبوح لنا الشاعرة اذ تقول:

«هكذا...، كل جنازة تزغرد فيها حرية الروح، كل قتل تترجل فيه الجثث الجريئة، نحو مرجل الشهادة، وتؤجج عرش الدم...» أي جسد يزغرد أمامه الاحباء فرحا برحيل روحه نحو العلا سوى جسد الشهيد؟

نوفمبر/تشرين الثاني

هكذا نرى النصر: مأدبة دم، لا تؤوي قتلة ولا جلادين، بل اليانع من بسالة الطفولة، وجرأة الغضب، أصابع تقتص من قاتليها، وترج عناد الاسر، بصرخة النصر.

ديسمبر/كانون الاول

الشهيد الآخر، وللأسف انه استشهد في عصر الانفراج، الشهيد محمد جمعة الذي رحل عنا في السابع من ابريل/نيسان العام 2002م وبرصاصة مطاطية غير مسئولة انطلقت من فوهة حاقدة نحو رأس يحمل عينين كانتا تبكيان على فقدان القدس، وشفة كانت تصرخ بعودة الحق وتحرير فلسطين العربية من ايدي الطغاة الصهاينة، لم يكن سوى عربي يحلم مع ملايين العرب والمسلمين بأن يركع مصليا في الاقصى.

قالت شاعرتنا: «ها انت، تخترق عصا التواريخ، وتقف قبالة الاقصى ملوحا بعار القبائل، التي في خيمة النحر والصدقات القتيلة...».

ومن يخترق التاريخ سوى الخالدين من الابطال والفاتحين والشرفاء والثوار وعلى رأسهم الشهداء. وقبل ان تطوي صفحة ديسمبر من روزنامة سنة 2003م، تشاهد صفحة زرقاء ممتلئة «بكل صور هؤلاء الشهداء، كلهم (64) شهيدا وشهيدة، في جزيرة صغيرة كثافة سكانها لا تحتمل هذا الدم، شعبها الطيب لا يستحق هذا العذاب ، شعب عريق ممتدة جذوره الى ما قبل التاريخ، حضاري في قيمه وسلوكه، بعيد عن قيم الغبار والصحراء المعروفة بالقتل من أجل البقاء... صفحة تختتم بها الشاعرة نصها الرائع بقولها:

«منهال، لا يمحو ذكراه، كالدم آن يجف...».

حقا لن ينسى الشهيد سوى من لا يرغب في ان يبني أمة تستلهم ابناءها من بطولات الآباء والاجداد، وان المجد والقوة والنماء والحفاظ عليه هو عربون لاحلام شهداء تحققت، وبعضها عليها ان تتحقق!!





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً