مع استمرار الحوادث الدامية في الأراضي الفلسطينية، يتجدد الجدل في وسائل الإعلام والمنتديات العربية المختلفة، بشأن مجمل القضايا التي شكلت الخطاب السياسي العربي، طوال العقود الثلاثة الماضية، مثل الحرب والسلام.
ويبدو ان أي من عناصر هذا الخطاب، لم يصادف استقرارا وحسما، أو على الاقل إجماعا معقولا، على رغم طول المدة.
فمفاهيم الخطاب العربي رجراجة وسائلة على الدوام، وبإمكانها ان تتحول من حال إلى أخرى، تبعا لتوالي الحوادث وردود الفعل. وما اعتقد انه حسم واستقر في النفوس والاذهان، يتبدى انه ليس كذلك.
ومن المفارقات أن الذرائع والحجج القديمة، يعاد طرحها من جديد. وكأن الزمن لا قيمة له، وكأن الواقع جامد لا ينير ولا يتبدل. فإذا كانت الحرب مع إسرائيل، اسبتعدت منذ عقدين من الزمن، ولأسباب معروفة، فهل يعقل أن تصبح هذه الحرب ممكنة اليوم في العام 2003. ولاسيما أن الشواهد التي تلت ذلك، لم تزد هذه النتيجة إلا استقرارا وامتدادا!
وهل يعقل ان السلام (وهو هنا نقيض الحرب) الذي اعتبرته معظم الدول العربية «خيارا استراتيجيا» يمكن أن يتنحى فجأة أو يتحول إلى مجرد موقف أو رأي!
عدا أن هناك حزمة من القضايا التي بدأ الخطاب العربي يتعامل معها باعتبارها استنتاجات زكتها التجارب والحوادث مثل أولوية التنمية والإصلاح الاقتصادي والتغيير السياسي وتحقيق الاستقرار وموازين القوى الدولية والعولمة...الخ.
إن هذه جميعها تفترض استبعادا لعنصر الحرب او تأجيله على الاقل.
والمسألة الاخرى الجوهرية، ان مثل هذا الجدل أو النقاشات لا تتم في إطار معقول من التحليل والمنهجية والرغبة في الفهم واستجلاء الأفكار، وإنما يغلب عليها طابع العصبية والثأرية واستعراض المواقف، حتى يخال للمرء احيانا أن المهم ليس هو الوصول إلى فهم وحساب معقولين لأبعاد الحوادث الجارية، بقدر إطلاق أكبر عدد ممكن من القذائف الايديولوجية، متعددة المدى.
أما الكلام الذي ينساب من أشداق المتحدثين (سيما في الفضائيات العربية) فإنه في الغالب لا يحمل أي قدر من المسئولية، سواء تجاه الحاضر أو المستقبل، وسواء تجاه الأحياء أو الأموات.
وحين نتحدث عن المسئولية فالمقصود هو تقدير الاحتمالات المختلفة، وفق معطياتها الحقيقية وما يمكن أن تؤدي إليه.
فمن السهل أن يقول شخص ما إن المطلوب هو أن تطلق الحكومات المجال للجماهير العربية كي تأخذ بنفسها زمام المبادرة في محاربة «إسرائيل» وتدميرها، لأنه يستحيل التعايش مع هذه الدولة أو التفاهم معها، بعد كل ما فعلته بالعرب وبالفلسطينيين.
ولكن مثل هذا الشخص لا يهتم كثيرا أو قليلا بشرح ما يقصده بكل ذلك، وكيف سيتحقق ومتى! وبالنتيجة فإن ما يقوله، لا يمكن ان يتم أو يتحقق، بسبب الغياب الصارخ للمعلومات، وحساب عوامل الربح والخسارة بدقة، فضلا عن التصورات القائمة على تقديرات صائبة.
والأخطر من هذا ان ثمة بونا شاسعا بين من يتحدث عن القرار (السياسي خصوصا) وبين من يصنعه.
وبينما يتكثف الحديث ويتراكم وتعلو نبرته مع الوقت في الجانب الاول، ينشغل الجانب الثاني بترتيب أولوياته، وفي النهاية يستمر الجدل والنقاش، بشأن كل شيء، ما يحدث اليوم أو ما حدث قبل عشرين أو مئة عام. فالنتيجة في كل الأحوال مضمونة ولا خوف عليها من الزوال
العدد 121 - السبت 04 يناير 2003م الموافق 01 ذي القعدة 1423هـ