العدد 121 - السبت 04 يناير 2003م الموافق 01 ذي القعدة 1423هـ

امبراطوريّات العالم... وجمهورية خزعل

محمد صادق الحسيني comments [at] alwasatnews.com

يقول القارئون لتاريخ بلادنا بعناية وعمق وتأمل ان «كوروش العظيم» كبير ملوك الهخامنشيين وسادس حاكم في تلك السلالة الإيرانية المستبدة عندما قرر الهيمنة على العالم من حوله وتشكيل أول امبراطورية في التاريخ زحف يومها بجيوشه الغازية على بابل وغير بابل تحت شعار «الحرية للجميع»! مدغدغا مشاعر اليهود في حينه وغير اليهود بأنه قادم «لتحريرهم من القيود والأغلال» وأنه «يشاركهم في كل ما تدعوهم إليه آلهتهم». وفعلا نجح كوروش المذكور في الزحف على مصائر ومقدرات ملل العالم في عهده تحت شعار «الحرية» الزائف ليبني امبراطوريته الهيمنية الظالمة بحد السيف وسفك الدماء.

وأنه عندما جاء دور الاسكندر المقدوني فانه عمل الشيء نفسه، مبتدئا بفتح بلاد مصر التي كانت قد وصلت إليها هيمنة امبراطورية فارس القديمة مستمرا بالزحف تحت ظل الشعار نفسه إلى أن دكّ امبراطورية «كوروش العظيم» دكا ورفع علم امبراطوريته البديلة في «عرين» بابل ومن ثم في معقل امبراطورية فارس في بريسبوليس أن خاض بحورا من الدماء التي كانت تحد من دون وصوله إلى عرش الامبراطورية العالمية الخاصة به.

وأنه بين الأعوام 1910م و1917م كانت تراود طلائع الزاحفين على العالم من أرباب «الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس» فكرة إعادة رسم خريطة المنطقة المحيطة ببابل وفارس بما يتناسب ومصالح الامبراطورية العتيدة وتصفية ميراث دولة «الرجل المريض» أي الدولة العثمانية، اسهم ذلك الطموح في إطالة أمد حرب عالمية هي الأولى من نوعها وربما أسس لنواة حرب عالمية ثانية بعد عقدين من الزمان.

والغريب والملفت في المشهد الأخير مما نحن فيه من سرد تاريخي تلغرافي هو ان أرباب الامبراطورية الانجليزية كانوا يعدون العدة ويخططون لقيام «جمهورية تضم خوزستان الإيرانية والكويت والبحرين والمنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية حاليا ومنطقة جنوب العراق وصولا إلى بغداد لتكون عاصمة هذه الجمهورية والتي كان يفترض ان يتزعمها الأمير الشيخ خزعل - شيخ خوزستان - باعتباره رجل الانجليز المفضل آنذاك» كما يقول رواة التاريخ المعاصر.

لكن قيام ثورة اكتوبر/تشرين الأول الاشتراكية كما يضيف القارئون العارفون ببواطن الأمور في العام 1917م وترسيخ جذورها البلشفية في العام 1919م والذي شكل انقلابا غير متوقع في مخطط الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس هو الذي منعها من تنفيذ خطتها المذكورة أعلاه، الأمر الذي دفعها إلى استبدال تلك الخطة بقيام دكتاتوريات متعددة أريد لها أن تشكل سياجا يحيط بالدولة البلشفية الفتية ويطوقها من كل جانب فكانت دولة تشان كاي شيك الصينية ودولة رضا خان الإيرانية ودولة كمال أتاتورك التركية كسلسة أقمار من العملاء المتعاونين مع الإنجليز، وكان نصيب بلاد بابل القديمة الدولة العراقية الحديثة التي نعرفها اليوم.

هذه الدولة التي يقال انها وليدة مخاض صعب من الإرادات المتضاربة والعوامل المتدافعة لكنها محصلة الغلبة الإنجليزية على زعماء ثورة العشرين العراقية الوطنية المجيدة التي خاضتها جماهير بلاد الرافدين العرب الاقحاح بزعامة رجال الدين من احرار الطائفة الشيعية وعشائر دجلة والفرات الوطنية من الطائفتين الشيعية والسنية على حد سواء.

تلك الدولة التي ظل العراقيون عموما مجمعين على أنها لم تمثل يوما طموحات ثوار الاستقلال وزعماء النهضة لأنها تشكلت بعيدا عنهم وعن ارادة الأكثرية الشعبية وفي اطار ما يسمونه بالصفقة التي حصلت بين معادلة الغلبة الانجليزية والنخبة من بقايا دولة الرجل المريض التركية العثمانية. وبالتالي فثمة من يلوم اليوم زعماء النهضة وثورة العشرين من علماء دين وزعماء عشائر ونخب وطنية لأنهم لم «يستثمروا» فرصة المفاوضات مع الانجليز وأنهم مارسوا المبدئية أكثر من اللازم بل أن ثمة من يحذر من ضياع فرصة متاحة مقبلة! ويقولون ان الديمقراطية الجديدة التي تتشكل أطرها اليوم بسبب معادلة الغلبة الأميركية والدولة القطب الأوحد في العالم بعد الحرب الباردة وحوادث 11 سبتمبر/أيلول انما هي بصدد «اعادة انتاج جمهورية خزعل الحرة الشهيرة بلباس عصري جديد!». وما علينا نحن من أبناء العراق «الرجل المريض» إلا اقتناص هذه اللحظة التاريخية الذهبية وعقد صفقة العمر مع الامبراطورية الجديدة التي لن تغيب عنها الشمس هذه المرة أبدا.

في هذه الأثناء ثمة من يذكر الطامحين بحلم الشيخ خزعل بما حصل له عندما ظهر فجأة على المسرح السياسي الأكبر «بطلا» آخر من أبطال اقتناص الفرص التاريخية! وهو رضا خان الذي قدّم مواصفات أفضل للتعامل مع الامبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس آنذاك وسرعان ما أعطي الضوء الأخضر لاحضار خزعل إلى طهران مكبلا بعلم الحرية الانجليزي ليدفنه ويدفن معه حلمه «بجمهورية المحمرة»! الممتدة عبر الكويت والبحرين والمنطقة الشرقية وصولا إلى بغداد. ويتساءل هؤلاء: ماذا لو وجدت واشنطن أو عرض عليها اليوم من هو أقدر على تلبية رغباتها الامبراطورية وطموحاتها الهيمنية على العالم والمساعدة بشكل أفضل على إشاعة وتعميم الحرية والديمقراطية المنشودة؟ عندها ماذا سيكون مصير الطامحين بحلم الشيخ خزعل من أمراء المعارضة العراقية؟ ثم قبل ذلك وبعده فان السؤال الكبير الذي يرتسم اليوم على شفاه كل عراقي بل وكل عربي بل وكل مسلم هو: اين مصلحة جمهور العامة من العراقيين في هذا السباق المحموم الذي تخوضه بعض الفئات المتصدرة لبديل «الرجل العراقي المريض» مع حاكم العراق الفعلي في كسب ود أو معركة التأثير على ما بات يعرف «بالمجتمع الدولي» والذي تتحكم فيه دولة القطب العالم الأوحد؟

هذا الجمهور هو أحوج ما يكون إلى فك الحصارات المتعددة عنه، والتفكير في حاجاته اليومية الملحة من طبابة وتغذية وتعليم ورفاهية وعيش بسلام مع ذاته ومع جيرانه بعيدا عن صراعات «البيادق الوطنية» القديمة والحديثة العاملة في خدمة المصالح الهيمنية للامبراطوريات القديمة أو المستقبلية. انه الشعب العراقي المنسي في خضم الصراع من أجل السيطرة على النفط وغيره من موارد الهيمنة على العالم

إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"

العدد 121 - السبت 04 يناير 2003م الموافق 01 ذي القعدة 1423هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً