هل كان مؤسس حزب البعث العربي ميشيل عفلق مؤسسا للتيار القومي الاسلامي؟ وهل مات مسلما وهو يدافع طوال نصف قرن من الزمان ودفن في بغداد العام 1989م؟
يقول عفلق مدافعا عن الاسلام: اكتشفت الاسلام كثورة وكتجربة ثورية هائلة، وقرأته قراءة جديدة من هذا المنظار، إنه عقيدة ونضال في سبيلها وقضية إنسانية، بل انه قضية بتصور إنساني اوسع، ونضال اروع ما يكون بأعلى مراحله، وبما فيه من تنظيم دقيق وتثقيف، إلا انه ايضا دين فهو تجربة ثورية، السماء فيها متداخلة مع الارض.
هكذا يصف عفلق بعد اكثر من ثلاثين سنة من نشوء الحزب: ان أسباب نجاح الطريق الذي سار عليه حزب البعث انه اكتشف الاسلام وقرأه بعد ان قرأ الشوعية وبعد ان عاش في مواجهة التحدي الاستعماري الغربي وحضارته.
ولد عفلق ونشأ من ابناء الاقلية المسيحية الارثوذكسية، التي وان تميزت بالتوجه العروبي الا انها كواحدة من الاقليات الدينية في بلاد المشرق العربي قد تميزت بالتعرض لتأثيرات الحضارة الغربية أكثر من الغالبية المسلمة، كما تميزت بتزايد الخيوط الفكرية، والميول الثقافية، والعواطف الحضارية، التي ربطت قطاعات من النخب المثقفة فيها بتيارات الفكر الغربي ودوائره ومؤسساته ومدارسه التبشيرية منذ مطلع الزحف الاستعماري الغربي الحديث على عالمنا العربي قبل قرنين من الزمان.
وكانت ماهية الرسالة التي فكر فيها عفلق كما قال: الرسالة العربية: ايمان قبل كل شيء، ولا يعيبها هذا او ينقص من قدرها، فالحقيقة العميقة الراهنة، هو ان الايمان يسبق المعرفة الواضحة ويقول «طلب العرب السماء فملكوا الارض، فلما اقتصروا على طلب الارض اضاعوها والسماء معا، لا يسيطر العرب على حياتهم حتى يؤمنوا بالخلود، ولا تعود إليهم ملكية ارضهم حتى يؤمنوا بالجنة من جديد.
وفي سنة 1947 عقد المؤتمر الاول لحزب البعث، وصيغ دستور الحزب الذي اقره المؤتمر، وفي المبدأ الثالث من هذا الدستور جاء النص على «رسالة الامة» على هذا النحو: (الامة العربية ذات رسالة خالدة، تظهر بأشكال متجددة متكاملة، في مراحل التاريخ، وترمي الى تجديد القيم الانسانية، وحفز التقدم البشري، وتنمية الانسجام والتعاون بين الامم).
لنتساءل ونحن نعود لقراءة المشروع الفكري لمؤسس حزب البعث العربي: ما هي مكانة الاسلام في هذا المشروع الفكري الحضاري لعفلق؟ وكيف اسلم الفكر البعثي؟ وكيف مات ميشيل عفلق مسلما؟ هذه النقاط تحتاج الى مراجعة لأوراقه وكتاباته السياسية المجموعة والمطبوعة بإسم (في سبيل البعث الكتابات السياسية الكاملة) قرابة ألفي صفحة - في خمسة مجلدات - هذا غير ما نشر في كتاب (نضال البعث) البالغ ثلاثة عشر جزءا.
ولو تتبعنا الخط البياني لفكر عفلق في قضية التدين والايمان واهمية وجود الروحانية للمشروع النهضوي فسنجده في فكرتين:
الاولى: الدعوة الى تدين يجعل الدين مجددا لحياة الامة وواقعها، ومن ثم تدين متميز عن التدين الرائج الذي يسخر لتكريس الواقع البائس او يقف عند «شكل التدين» الخالي من المضمون.
الثانية: الدعوة الى «الروحانية ـ الواقعية» الجامعة بين المثالية وبين مقتضيات التفكير العلمي، الروحانية التي تهتم بالارادة والاخلاق اكثر من الاهتمام بالبعد الغيبي، وذلك لاستدعاء عفلق الاسلام الحضاري اكثر من استدعائه الدين الخالص الاسلام.
وفي دعوة الحزب وقيادته الى الاهتمام بإجلال الاسلام ومكانه الطبيعي في الفكر والممارسات كتب سنة 1963م قائلا: ثورة البعث ارادت منذ البدء ان تأتي بعنصر روحي.
يعود في العام 1964 لذكر هذا الموضوع قائلا: على رغم مرور عشرين سنة على نضالنا، مازلنا بحاجة ماسة حيوية الى النظرة الاولى التي رافقت نشوء هذا الحزب، الى نظرة الزهد والصبر والارتفاع فوق الانانية، والى الايمان بكل معانيه، فالايمان لا يتعارض مع التفكير العلمي، والنظرة العلمية انما يعطيها الايمان الروحي الغذاء، ويعطيها الصبر والنفس الطويل، ويقيها من اليأس والتخاذل والنفعية والانتهازية، الايمان بالمثل، الايمان بالحقيقة، الايمان برسالة الامة العربية، الايمان بالله.
ولم يتزحزح موقفه من التراث طوال أربع وثلاثين عاما فيقول: نحن شعب عربي مسلم، تراثنا ليس للماضي فقط وانما نور وضوء على المستقبل، ومنه نستمد المثل والمبادئ الانسانية والاخلاقية، وفيه نستمد الروح والنظرة الى الانسان بوجه عام.
ان التراث ليس في حركتنا الثورية شيئا من الماضي، وليس شيئا للتسجيل في الذاكرة، وانما حياة نابضة وهو الاصالة والقدرة على الابداع، ان هذه الامة امتزجت شخصيتها وكلأ ذرة حياة من ذرات كيانها النفسي بهذا التراث، الذي هو رسالة عظمى، فلم تعد تقبل ما هو من دون المستوى، فالثورة العربية اذا لم تستلهم التراث وتستلهم روح الرسالة ومستوى الرسالة فهي فاشلة، فاستلهام التجربة الخالدة في حياة الامة انما يعني استلهام الابداع والدوافع والقيم الانسانية، القيم الثورية التي لا تحمل الامة العربية حقوقا وامتيازات بقدر ما تحمل ثورتها المعاصرة مسئولية كبرى وواجبات عالية، نحو نفسها ونحو الانسانية، انه تأصيل لفكر الحزب، وليس تراجعا عن تقديمه ونهجه العلمي او عن سياسته تجاه حلفائه التقدميين في الداخل والخارج.
واستمرت هذه الدعوة في مشروعه الفكري، بارزة وملحوظه فقد قال في خطابه سنة 1986م في ذكرى تأسيس الحزب: ولئن كان عجبي شديدا للمسلم الذي لا يحارب العرب فعجبي اشد للعربي الذي لا يحب الاسلام، لقد كانت رؤيتنا القومية الحضارية لمستقبل الامة وذلك منذ بداية الحزب - ان يساعد الكشف عن خصوصية العلاقة بين العروبة والاسلام، على ان تكتشف الطوائف العربية غير المسلمة، ان الاسلام هو ثقافتها. وحضارتها، واثمن شيء في عروبتها، تباهي به حضارات الامم، ومن قبل بداية الحزب لسنين كثيرة، كان ادراكنا لخطر الاستعمار الثقافي الغربي على هذه الطوائف، وان انقاذ هذه الطوائف من الغربة الحضارية، لا يكون بغير تعميق الثقافة العربية الاسلامية وتعميقها ثقافة للأمة كلها.
ولمس عفلق في سنة 1985م امرا خطيرا قلما التفت اليه الكثيرون، فيقول: دخل الغرب في علاقة جديدة مع اليهود واليهودية، فبعد مضي اربعة قرون على النهضة الاوروبية، كان الغرب خلالها يعتبر ان حضارته مستندة الى صيغة التفاعل بين المسيحية والحضارة اليونامية - اللاتينية القديمة، ويدرس ذلك في جامعاته، اذا هو يجري التفاعل بين الديانتين: المسيحية واليهودية! وهي سياسة مفضوحة، ليس لها من مبرر الا القوة التي بلغتها الصهيونية في الغرب، حتى استطاعت ان تفرض مثل هذا التعديل الايديولوجي الاساسي، وإلا اطماع الغرب في استغلال البلاد العربيج وثرواتها، واعتبار الكيان الصهيوني جزءا متقدما من الحضارة العربية مزروعا في قلب البلاد العربية، تجمعه بالغرب صلات ومصالح واهداف مشتركة، واصبحت اليهودية، التي كانت الى عهد غير بعيد موضوع تميز ديني وعنصري واضطهاد في بعض الاحيان في الغرب، اصبحت اليهودية جزءا عضويا في جسم الغرب، وحليفا، وليس لمحاربة العرب والاسلام فحسب، بل لمحاربة الاتحاد السوفيتي، وهذه الشراكة السياسية الاستعمارية التوسعية بين الغرب والصهيونية هي اخطر بكثير من مجرد تحالف سياسي، اذ انها تستند الى شراكة حضارية ثقافية عميقة، عمرها مئات السنين.
وكان ظهور البعث كمشروع نهضة حضارية هو بحد ذاته رفض للشيوعية لأنها مشروع تبعية ولا حضارة مع التقليد والتبعية يقول عفلق: ان موقفنا اليوم من الماركسية والشيوعية لم يعد موقفا سلبيا، يجب علينا ان نأخذ كل ما يفيدنا في تخطيطنا للتحول الاشتراكي. وفي الماركسية نواح خاطئة وفيها نواح سطحية، مثلا: فهمها للدين فهم سطحي والخطأ الكبير إغفالها للقومية وحقيقة القومية وأيضا سطحية الفهم للأممية، الفلسفة التي قامت عليها الماركسية فيها تعصب وفيها مبالغات وتضخيم الحقيقة تضخيم الخطأ الذي غيرها بما معناه انها تفتقد الى النزاهة العلمية على رغم ادعائها بالعلمية فهي براغماتية بمعنى انها تستهدف النجاح بصرف النظر عن الوسائل فتبتعد عن الموضوعية التي هي شرط المعرفة العلمية، الفلسفة المادية التي بنيت عليها الماركسية فيها نواحي من الضعف ونواحي من القوة التي لا تنكسر، انها اول محاولة فكرية للنظر الى التناقضات الاجتماعية بنظر واقعي وجدي بعيدا عن الطوباوية، اما تفاصيل هذه الفلسفة فإنها تنطوي على تفسيرات متعسفة وغير جدية، وخصوصا اغفالها لأهمية النواحي الروحية في حياة البشر.
وفي العام 1964 يدافع عفلق عن انه ضد الماركسية فيقول: اصطلاح الاشتراكية العلمية محتكر للماركسية، ونحن نجادل الماركسية في هذا، ولا نعترف لها بصحة هذا الادعاء، بان اشتراكيتها هي وحدها العلمية، نحن بنينا اشتراكيتنا على اساس علمي، ولم نكتف بالعلم، لأن حركة البعث كما قلت لكم، من الاساس اعتبرت أن نصف الحقيقة ونصف الثورة هو التفاعل مع الفكر العلمي، ولكن الروح هي الأساس ولذلك قلت ان اشتراكيتنا علمية وهي ايضا روح، اي قيم روحية واخلاقية.
وكانت القضية الكبرى للمشروع الفكري البعثي هي القضية القومية ولذلك كان شاغله الاعظم هو علاقة (العروبة) بـ (الاسلام) وليس علاقة الدولة بالاسلام، يقول: نعتقد ان اية امة من الامم معرضة لأن تجنح الى الالحاد، ما عدا الامة العربية، التي يدخل الاسلام في نسيج شخصيتها وتاريخها، لان الاسلام بالنسبة اليها هو: دين، وقومية، وحضارة، وهل يستطيع شعب ان يهرب من شخصيته ويتمرد على قوميته ويتنكر لحضارته.
ويضيف: ان الاسلام هو الذي حفظ العروبة وشخصية الامة في وقت التمزق والضياع وكان مرادفا للوطنية وللدفاع عن الارض والسيادة والداعي الى الجهاد امام العدوان والغزو الاجنبي، وسيبقى دوما قوة اساسية محركة للنضال الوطني القومي، وهو الذي خرجت من صلبه، ومن حركة التطور التاريخي فكرة القومية العربية، بمفهومها الانساني السمح، وهو الذي يحيط الامة العربية بسياج من الشعوب المتعاطفة معها، ان الاسلام هو الصميمي المندمج في نسيج الأمة وفي تاريخها وفي حياتها اليومية، ولا يصح تناول الإسلام من الموقع الحيادي النظري السياسي. والشيء الطبيعي هو ان يكون انفتاح التيار القومي على الاسلام موقفا فيه الحرارة والحنين، والغيرة والحرص، والاعتراف بالفضل، وبما يشكله الاسلام من ضمانه مصيرية لقوميتنا ولمستقبلنا كأمة.
ويؤكد في آخر خطاب قبل وفاته في 1988م يستطيع التيار القومي أن يحاور التيار الديني المتجرد الوطني حوار الحب والعقل ، وهكذا ينتهي ميشيل عفلق، ابرز مفكري التيار القومي العربي في هذا القرن، وصاحب ابرز المشروعات الحضارية القومية المعاصرة، ومكانة الاسلام المرجعية في المشروع النهضوي.
وهذه الرسالة مازالت موجهة الى التيار القومي ومعروضة على قادته ومفكريه، وموجهة للتيار الاسلامي الذي وقفت تصوراته للفكر القومي وتياره ومشروعه النهضوي في محاولة لإنضاج «الرؤية القومية للإسلام»
العدد 120 - الجمعة 03 يناير 2003م الموافق 29 شوال 1423هـ