في اللقاء الصحافي الذي عقد في 27 ديسمبر/ كانون الاول الماضي، أكد الوزيران المنتدبان للشئون الخارجية والداخلية، الطيب فاسي فهري، وفؤاد عالي (الاثنان مقربان من القصر)، بأن «العلاقات مع اسبانيا تتحسن بهدوء». ما نشرته الاوساط الاوروبية المراقبة على انه بمثابة بداية انفراج لأزمة حادة طالت هذه المرة. كما يعطي فكرة عن التقدم - ولو المحدود وايضا المشروط - الذي سجله الاجتماع بين وزيري خارجية البلدين، محمد بن عيسى وآنا بالاثين الاسبوع الماضي بمدريد إذ تم الاتفاق على «معالجة جميع الموضوعات العالقة» يفهم من وراء هذه الصيغة - الاخراج - ان الامر يتضمن بالدرجة الاولى مسألة الصحراء الغربية والهجرة السرية والتهريب. اما الملفات الشائكة التي تزعج كلا من الرباط ومدريد اي مستقبل مدينتي سبتة ومليلة وترسيم الحدود البحرية، فتترك لعامل الوقت وعودة الثقة. اما فيما يختص بموضوع الصيد البحري، السبب المباشر والعلني للأزمة، فإنه بحسب تقدير المحللين، لن يكون عقبة إذا ما تم التوصل إلى ارضية تفاهم شاملة.
وجاء الحديث الذي خص به رئيس الوزراء المغربي الجديد، إدريس جطو، صحيفة «آل بايس» الاسبانية - الاول له لصحيفة اجنبية منذ توليه شئون السلطة التنفيذية - والذي رفض فيه تحميل اسبانيا المسئولية في التأزم الحاصل، مفضلا التركيز على مستقبل العلاقات في ضوء الاجتماع بين الوزيرين، لأن المهم بحسب قوله، طرح جميع المشكلات على بساط البحث، وارساء قواعد ثابتة وآليات مرنة لإعادة الثقة. وذهب جطو أبعد من ذلك حين ذكر بالحرف «ان المغرب يتفهم القلق الاسباني لكنه تمنى في الوقت نفسه ان تكون لاسبانيا نظرة شمولية غير ضيقة، لأن المشكلات، أعمق وأكثر تعقيدا مما يتصوره البعض». وتعمد الوزير الاول المغربي ايضا، فصل موضوع مدينتي سبتة ومليلة، والجزر المحتلة الاخرى عن الباقي حاليا، ومعالجة هذه المسائل في اطار من الحوار والصداقة، من دون ان يؤثر ذلك على مسار التطور العادي للعلاقات. وزيادة في طمأنة الجانب الاسباني، في الوقت نفسه، وضع الكرة في مرماه، محاولا ازالة الهاجس الذي يتحكم في بعض قيادته السياسية، لناحية الاعتقاد بأن العلاقة المميزة مع فرنسا انما هي اليوم على حساب مصالح مدريد الاستراتيجية والاقتصادية في المغرب، مشيرا في المقابل إلى أن إسبانيا «مدعوة لأن تصبح الشريك الاول للمملكة المغربية». لكن جطو اختتم حديثه برسالة واضحة إلى من يهمه الامر في محيط رئيس الوزراء أثنار والمؤثرين في صناعة القرار والمسئولين عمليا عن التأزم بالقول: «ان الامتداد على صعيدي الصناعة والخدمات وتعزيز المواقع في السوق المغربية لا يجب ان يكون باتجاه واحد، وعلى الاسبان أن يفهموا، اذا كانوا يريدون شراكة فعلية، ان يحتل المغرب الاولوية لناحية الاستثمار وليس اميركا اللاتينية».
أسباب التحول
لم يعد خافيا على اي من المتتبعين لملف العلاقات الاسبانية - المغربية، ان هذا التحول المفاجئ، إنما هو نابع من «ضغوط ودية»، قامت بها دول كبرى صديقة مشتركة للجارين المتنازعين. وإذا كانت طبيعة هذه العلاقات لم تتحدد بشكل واضح، ولم تتناولها وسائل الاعلام في كلا البلدين، وتعمدت الاوساط المطلعة فيها تجنب الخوض في غمارها، فإن المراقبين يعتبرون أن المعنيين مباشرة بهذه الضغوط هما واشنطن وباريس. ومن مؤشرات ذلك، ما ورد في اللقاء اليومي الذي تجريه وزارة الخارجية الفرنسية مع الصحافة المحلية والاجنبية - والذي تزامن مع الذي تم في الرباط - إذ اكد الناطق الرسمي المساعد في باريس ان فرنسا تحيي اللفتة التي جاءت من الملك محمد السادس بفتح مياه المغرب امام الصيادين الاسبان متضامنا معهم إثر تعرض شواطئهم للتلوث، والتي بحسب قول هذا المسئول تشير إلى اتجاه اعادة الدفء للعلاقات بين البلدين الصديقين لفرنسا. في هذا السياق، تفيد مصادر مغربية مطلعة بأن الزيارة الخاطفة التي قام بها الرئيس الفرنسي جاك شيراك في نهاية شهر رمضان المبارك للمغرب واجتماعه بالعاهل المغربي، كانت بحد ذاتها مبادرة وساطة لكسر حدة الازمة بين اسبانيا والمغرب، تمهيدا لتدوير زوايا الخلافات، بانتظار التوصل إلى حلول ولو جزئية تعيد الامور إلى مجاريها. وتشير المصادر عينها إلى أن فرق عمل قد تألفت ومن المتوقع ان تبدأ مهماتها في مطلع العام المقبل بالعاصمة المغربية، ولم تنتظر الرباط هذا الموعد، إذ اعلنت بلسان وزيرها للصيد البحري يوم الاثنين الماضي، أن بلاده سمحت على الفور لـ 64 سفينة صيد اسبانية بالقيام بعملها. هكذا وضع المغرب الكرة في المرمى الاسباني في الوقت المناسب، ما حدا بأحد المسئولين الاسبان المتشددين تجاه الرباط للقول: «يجب الاقرار بأنها كانت ضربة معلم». في السياق نفسه، اعربت واشنطن عن ارتياحها لما اسمته بداية الخروج من الازمة، داعية مدريد إلى التجاوب و«التقاط الكرة في الهواء» بحسب تعبير سفيرتها في المغرب.
على رغم التطور الايجابي هذا، يرى احد المحللين المحايدين أن جدية الحلحلة والحديث عن عودة الدفء يعني من جهة اخرى ان حال البرود في العلاقات لاتزال موجودة حتى ولو اعلن الوزير المنتدب للشئون الخارجية، الطيب فاسي فهوي امام البرلمان يوم الاربعاء الماضي أن هنالك «دعوة صادقة إلى الدخول في حوار شامل». ويعزو المحلل تشخيصه كون وزيري خارجية البلدين لم يدليا بمؤتمر صحافي مشترك فور لقائهما في العاصمة الاسبانية، مكتفيين بمصافحة عادية لا تدل على حرارة معينة. لكن، في ظل واقع العلاقات الاسبانية المغربية الذي تحكمه على الدوام معادلة التباين في المصالح والتعاطف مع القضايا المطروحة سلبا او ايجابيا، ينبغي القول إن اجتماع مدريد هو شيء مهم بحد ذاته في هذه المرحلة، بعدما اصبح هذا النوع من اللقاء من رابع المستحيلات في شهر سبتمبر/ايلول الماضي. اليوم، وبعد اكثر من عشرين شهرا من التأزم الحاد الذي اوشك على صدام مسلح ولو كان محدودا، هنالك حقيقة تتلخص في جملة واحدة وهي ان اسبانيا بقيت على رغم علاقات كأسنان المشط تاريخيا، الشريك الثاني للمغرب. فهنالك «قدرية جغرافية» لا يمكن الخروج منها بسهولة. لأنه من غير الممكن تغيير الجغرافيا بجرة قلم او بفعل تأزم سياسي او حتى مواجهة عسكرية. فالذي يؤكد هذه الحقيقة انه على رغم عملية اختبار القوة التي حصلت، حافظت علاقاتها الاقتصادية على وتيرتها.
وإذا كانت عودة التقارب هي من نتاج «ضغوط الاصدقاء والحلفاء» على الطرفين، فإن الاساس في إعادة الامور إلى نصابها هو في نهاية الامر من مهماتها. على اية حال، فإن اللهجة التي اتسمت بها تصريحات الجميع في الايام الاخيرة، تدل على ان الآفاق ستكون واعدة إذا اراد الجانبان تأجيل البحث في الملفات المزعجة جدا. ويرى احد المسئولين الاوروبيين ممن لعبوا دورا مهما في الوساطة أن الاسبان والمغاربة نجحوا في تنفيس الاحتقان بطريقة ذكية عندما حرصا، كل من جانبه، على تجنب الحديث عن رابح وخاسر في عملية اختبار القوة بينهما. ففي الرباط، تعمد المسئولون الاشارة وبشكل ملفت إلى ودية اللقاء مع الجيران الاسبان والتجاهل الكلي «للعدوانية» التي اظهروها في الاشهر الماضية والتي تحملت اوزارها الدبلوماسية المغربية داخليا. لكن اوساطها اكدت ان الاجتماعات المتسارعة التي تلت لقاء مدريد ساهمت في اجراء جردة نقدية مفصلة لمجمل الملفات والمصاعب المعلقة. ما سمح للسياسيين المغاربة بالاشارة إلى ان هذه الاخيرة قد وضعت على سكة المعالجة من دون خلق اشكالات او وضع شروط مسبقة، مذكرين بأن حكومة اثنار كانت عشية العاشر من ديسمبر، اي قبل التحول المفاجئ، تريد وبنظرة متعالية ان يتضمن جدول اعمال اي لقاء مع المغاربة، الموضوعات التي تهمها بالدرجة الاولى. مع ذلك، فإن هذا التراجع عن الشروط لا يمكن تفسيره انتصارا بالنسبة إلى المغرب.
هذا ما أكده احد المسئولين الكبار في الرباط، مذكرا بضرورة العودة إلى قول مأثور لوزير الخارجية الاميركي السابق جيمس بيكر، خلال معالجته ملف الصحراء الغربية بأنه: «لم يحل شيء بعد، طالما ان الكل لم يُحل» فمناقشة موضوع ما هو شيء، وفهمه وتقبله هو شيء آخر. في هذا السياق، يبدو أن الرباط مدركة لهذه الحقيقة، لكنها تراهن على دينامية الحوار والتغير في نوايا الشريك الاسباني وضغوط الاصدقاء، خصوصا بعد اللفتة التي قام بها الملك محمد السادس، لكي لا تعود مرجعية «المصالح الاستراتيجية المتقاسمة» تسير باتجاه واحد بعد اليوم. على اية حال، فإن ما يتوقعه المغرب من تصويب لعلاقاته مع اسبانيا ليس سرا، فالرباط تأمل بالدرجة الاولى استعادة سيادتها السياسية والاقتصادية على جميع انحاء شمال البلاد، كما لا يمكنها تجاهل المساوئ التي يخلفها استمرار احتلال مدينتي سبتة ومليلة على مشروعات التنمية التي تضطلع بها حاليا. كما انها لا يمكن ان تقبل بعدائية مدريد حيال «تسوية بيكر» لمشكلة الصحراء، والتي تبقى بالنسبة إليها مبهمة وغير واضحة. كما ان النزاع الذي يلوح في الافق بشأن ترسيم الحدود المائية الاقتصادية، وكذلك التنقيب فيها عن النفط، لا يمكن حله بالقوة كما تدعو بعض الجهات في مدريد.
برنامج واسع من دون شك، لكن لقاء مدريد الذي دعا إلى «صيانة العلاقات المميزة» يشكل ممرا اجباريا اذا ما اراد الجانبان طي صفحة الخلافات واستباق النزاعات ووأد طموحات تيار اسباني شوفيني بدأ يعتقد منذ فترة بأن بلاده تسير على طريق القوى العظمى، وتدعو إلى العمل على هذا الاساس. في هذا الاطار يقول مسئول فرنسي، انه يجب على مدريد ألا تفهم التطور الديمقراطي في المغرب فحسب، بل ان تراعي خصوصيته ومصالحه وتساعده على حل مشكلاته الاجتماعية. هذا اذا ما كانت صادقة في شراكتها مع هذا البلد.
النفط والأعمال
يحددان المسار
في حين يرى البعض أن الملفات المعروفة مثل: الصيد البحري والهجرة السرية والتهريب واحتلال مدينتي سبتة ومليلة والخلافات على الجزر هي الاساس، يرى البعض الآخر أن النفط في المياه الاقليمية وفتح ابواب الاستثمار في جميع القطاعات من دون عوائق امام الشركات الاسبانية تبقى المحاور التي يجب ايجاد مخارج لها وبسرعة. ويشير هذا الفريق الذي يقدم الاستشارات إلى كبريات الشركات المتعددة الجنسية المهتمة بالمغرب منذ فترة، أنه يجب العمل بوعي لتجنب اية مواجهة في المدى المتوسط بسبب التنقيب عن النفط. فالبلدان قد اعطيا تراخيص بذلك لشركات نفطية عالمية في المناطق المتنازع عليها في البحر المتوسط وفي المناطق المحاذية لأرخبيل جزر الكناري. في هذا الاطار، اعطت الرباط ترخيصا بالتنقيب لشركة «كونوكو» الاميركية في مارس/ آذار من العام 2000 للعمل في المياه القريبة من سبتة ومليلة وصخرة الحسيمة. ومنذ ذلك التاريخ، والشركة تجدد عقدها سنويا. من جانبها، عمدت الحكومة الاسبانية إعطاء تراخيص للشركة نفسها، للتنقيب في كل المناطق بغض النظر عن نزاعات الشركاء السيادية، لأن المشكلة ستطرح حين يتم اكتشاف النفط في إحدى المناطق المتنارع عليها.
فأحد مواطن النزاع ايضا يمكن ان يأتي من منطقة جزر الكناري وسواحل الصحراء الغربية، فالضوء البرتقالي بدأ يظهر ويعطي إشارات خطرة منذ شهر مايو/ ايار 2001، عندما اكتشف تحالف الشركات النفطية الذي تقوده الاسترالية «فوزيون اويل» النفط على السواحل الموريتانية، على بعد نحو من ألف ميل من جزر الكناري. فالانعكاسات السياسية لهذا الاكتشاف يمكن ان تكون مهمة ودقيقة لأن الصحراء محاذية لشمال موريتانيا. بعد ذلك بسبعة اشهر، في نوفمبر/ تشرين الثاني 2001 تحديدا، اعطى المغرب ترخيصا للتنقيب على طول سواحل الصحراء لشركتي «كير ماكبي» الاميركية وللفرنسية «توتال إلف فينا» والبالغ 114656 كلم. بعد ذلك بثلاثة اشهر فقط، قامت اسبانيا بإعطاء احدى شركاتها النفطية «ريبسول» تسعة تراخيص للتنقيب في مياه الكناري، من بينها ثلاث مناطق يعتبرها المغرب تابعة لأراضيه. لذلك، فالتوافق على ترسيم الحدود المائية والتشارك في استخراج النفط بين البلدين يبقى اساسا في صلب المباحثات المقبلة بين الرباط ومدريد، لأن إزالة فتيل النزاع في هذا الميدان باتت ضرورة ملحة. من هنا، يراهن الجميع على تدخل الفرنسيين والاميركيين اصحاب المصلحة الاولى في السيطرة على الذهب الاسود في هذه المنطقة من دون الدخول في الحصص.
ويعتبر الفريق الثاني عينه، ان عدم اعاقة عمل الشركات الاسبانية الكبرى واستبعادها من المناقصات المهمة في السوق المغربية هو اساس لاعادة الامور إلى مجاريها. وتتهم مدريد اللوبي المغربي المؤيد لفرنسا بلعب دور في استبعادها. ما ينفيه المسئولون المغاربة جملة وتفصيلا مؤكدين ان الاعمال والعلاقات التجارية بقيت على حالها الطبيعية طوال فترة الازمة. فإسبانيا استوردت من المغرب منذ بداية العام الماضي وحتى شهر اغسطس/ آب الماضي ما قيمته 914 مليون يورو من البضائع المغربية مقابل تصديرها ما قيمته 1,08 مليار يورو للمغرب. والملفت في هذا الموضوع، انه على رغم حدة النزاع والاقتراب من الواجهة العسكرية، الذي دار حول احتلال جزيرة ثورا - ليلى في يوليو/ تموز الماضي، شهدت المبادلات التجارية بين البلدين نموا خارقا تجاوز الـ 21 في المئة كي يصل إلى 169 مليون يورو.
على رغم جميع العوامل التي يمكن ان تؤدي إلى التأزم بين الوقت والآخر، فإن «القدرية الجغرافية» وحتى التاريخية للبلدين تفرض في نهاية المطاف التقارب محافظة على المصالح الاستراتيجية المميزة، حتى إن شاء الشوفينيون الاسبان عكس ذلك
العدد 120 - الجمعة 03 يناير 2003م الموافق 29 شوال 1423هـ