بعد حوادث العبث الذي قامت به جماعات الهوليغنز في رأس السنة الميلادية بشارع المعارض يزداد الحديث في الشارع البحريني وفي الحوارات بين المثقفين عن ضرورة اعادة فهمنا لمشكلاتنا. فالفهم الذي ساد الثمانينات والتسعينات أصبح قديما وحوادث البحرين مطلع هذا العام هي الدليل على ذلك. الحكومة كانت - وربما مازالت - تفكر بصورة تقليدية لتحديد مصادر قلقها، وركزت على مواقع معينة وفئات معينة وجهزت نفسها بصورة مركزة لدعم هذا الفهم. المعارضون ركزوا على فهم محدد لطبيعة مجريات الحياة اليومية وأسباب الخلاف ومسببات الصراع. الصامتون (وما أكثرهم) انتظروا وما زالوا ينتظرون من يحسم وجهة نظره وبأي اتجاه لكي يحددوا وجهة نظرهم.
في خضم كل هذه التصورات التقليدية (والقديمة) فوجئ الجميع بوجود بحرين أخرى لم تكن في حسبان التصور الحكومي الرسمي أو في حسبان التصور المعارض التقليدي. ولعل الأفضل أن نسلّم حاليا بأن التناقضات والمفاجآت هي السمة التي ستلازم حياتنا العامة خلال الفترة المقبلة. وإذا سلمنا بحتمية التناقضات والمفاجآت فعلينا الاستعداد للتعايش مع بعضها ومواجهة المتطرفة منها. وبهذا ننتقل من الفهم الذي يصر على «القضاء» على المشكلات إلى الفهم الذي يرى ضرورة «التعامل بحكمة» مع المشكلات ومع المتناقضات ومع المفاجآت.
لقد اعتقدت الحكومة ان بإمكانها «القضاء» على الاضطرابات السياسية، ولكنها فشلت في ذلك. وفي المقابل نجح جلالة الملك عندما اعاد فهم المشكلة وتوجه إلى «التعامل بحكمة» مع المشكلات السياسية. وبالفعل خرجت البحرين من أكبر المشكلات السياسية لتعيش مرحلة سياسية أخرى لها معطياتها المختلفة عن سابقتها. ومهما اختلف السياسيون والناشطون على ايجابيات وسلبيات التعامل مع المشكلة السياسية، فإن الأكثرية تجمع على أن الانتقال من التفكير في «القضاء على المشكلات» إلى «التعامل مع المشكلات» كان الاسلوب الأفضل.
وبما أن الحكومة ركزت كثيرا على جانب واحد واهتمام واحد تجاه مصادر القلق، ظهر لها جانب لم تفكر فيه أبدا، وهو ظهور جماعات الهوليغنز الذين يظهرون في المجتمعات الليبرالية الغربية بسبب الطاقات الشبابية المتفجرة ولكنها ضائعة بسبب فراغ محتواها.
وفجأة ظهرت لنا أصوات تدعو إلى «القضاء» على هؤلاء المشاكسين، واعتقد المنادون بالقضاء على المشكلة بأن القائمين عليها هم أنفسهم الذين مارسوا العمل المعارض في الشوارع في التسعينات. ولأن أجهزة الحكومة كانت موجهة بصورة مركزة تجاه تلك الفئة من الناس، سارع البعض إلى إطلاق دعواته لاستخدام كل وسائل القوة «للقضاء عليهم». ولكن هؤلاء فوجئوا بأن الذين مارسوا العبث هم مجموعات شبابية مخلوطة، وأنها من دون توجيه سياسي من احد وأن بعضهم، أو كثيرا منهم، من فئات اجتماعية فوق المتوسطة، ودليل ذلك مظهرهم وطريقة حديثهم وأساليبهم. واعتقال بعض منهم سيكشف لنا جزءا من الحقيقة فيما لو نشرت الأسماء كلها وليس بعضها فقط.
اذ أن هناك خشية من أن تنشر أسماء محددة فقط لتعزيز وجهة النظر التقليدية التي شخصت (وبصورة خاطئة) مصدر البلاء الجديد وربطته بمصدر التحرك السياسي في السنوات الماضية.
كثير منا يود أن لو كانت الأمور أقل تعقيدا وأنها يمكن التعامل معها على أساس «أسود، وأبيض»، ولكن الواقع يقول لنا ان مختلف «ألوان الطيف» توجد في مشكلاتنا الحالية. وسنكون بعيدين عن حل المشكلة أو التعامل معها لو حاولنا تجاهل جميع الألوان وركزنا فقط على «الأسود والأبيض».
بعضنا يعتقد أن ما حدث «لعنة» حلت بنا أهل البحرين، وآخرون (كالعادة) صامتون وواقفون على الهامش ينتظرون من يأخذ عنهم القرار ومن يدفعهم إلى التوجه جهة معينة في التفكير.
لا يوجد أحد يستطيع امتلاك نظرية وفهم شامل وكامل من دون خلل سوى الله سبحانه وتعالى. فكلنا معرضون لنقص في الفهم لأن الظروف معقدة جدا. وليس عيبا على الحكومة كما أنه ليس عيبا على المعارضة أنها لم تستطع فهم المشاركة واستباق حدوثها. لكن العيب هو في اللجوء إلى فهم تقليدي وإلى أساليب تقليدية لمعالجة قضايا معقدة غير تقليدية. والأفضل لنا جميعا أن نشعر اننا في قارب واحد (على الأقل تجاه هذه المشكلة الجديدة) لكي نستطيع «التعامل معها» لأن الجميع (حكومة وغير حكومة) لن يستطيعوا «القضاء» عليها
إقرأ أيضا لـ "منصور الجمري"العدد 120 - الجمعة 03 يناير 2003م الموافق 29 شوال 1423هـ