«لماذا؟»
هكذا كثف مداخل في أحد المنتديات الحوارية في البحرين جملة من الأسئلة التي تواجه المجتمع هذه الأيام، بعدما قرأ ما تناقلته الصحف المحلية عما حدث ليلة رأس السنة الميلادية الجديدة من أعمال عنف، ولا يبدو أن للسؤال إجابة محددة إلى الآن. فالذاكرة لا تزال تحمل بعضا من هذه الحوادث التي لا يبدو أبدا أن هناك سببا وجيها لها، في المكان ذاته، وربما في المناسبات ذاتها أيضا.
فالمتجمهرون من الشباب، والذين شاركوا في صوغ هذه الحوادث المؤسفة، هم من الواقعين بين سن 20 و30 سنة بحسب المصادر الأمنية، وبالتالي، فإن هذا المعطى يقود إلى أهمية البحث أساسا في التركيبة النفسية لهذه الفئة في المجتمع البحريني، وما الذي طرأ عليها من تحولات في السنوات القليلة الماضية.
فبعدما كانت هذه الفئة ـ أساسا وفئة عمرية أصغر منها ـ وقود «الأحداث» التي مرت على البحرين، وكانت هذه الفئة ـ أساسا ـ هي المتكاثر خروجها إلى الشارع للتعبير عن رأيها في مسائل سياسية مطلبية، بغض النظر عن مدى تشربها بالأفكار الأساسية لهذه المطالب، انقلبت الفئة ذاتها اليوم إلى الخروج إلى الشارع في شكل آخر لا يحمل رسالة واضحة ـ إلى الآن ـ مع التأكيد على أن من خرج إلى المطلب السياسي قبل سنوات قلائل لا يمكن أن يكون هو ذاته من يخرج اليوم للتلذذ بالتكسير والتخريب والترويع.
وينفتح السؤال على وجه آخر. إذا كان «الناس» العاديون قد توقعوا صبيحة الاحتفالات فوضى في عدد من المناطق المكتظة بالمارة، والتي تحتفل خلف الجدران بليلة رأس السنة، كل على طريقته، ومنها شارع «المعارض» الذي شهد حوادث مشابهة أكثر من مرة على مدى الأسبوعين الماضيين، أليس من الأحرى بالأجهزة الأمنية أن تكون الأكثر «اطلاعا» وتنبؤا بما سيحدث، وبالتالي، الأكثر استنفارا واستعدادا لمواجهة هؤلاء النفر من الشباب، وتطويق الأمر قبل استفحاله؟
إن فترة «الأحداث» ـ التي استمرت حوالي أربع سنوات ـ أعطت القوات الأمنية «دورات عملية مكثفة» في التعامل مع الخروج عن النظام العام، فكيف لهؤلاء الصبية أن يتمادوا في تكسير واجهات جملة من الفنادق والمحلات التجارية والسيارات على مرمى حجر من مركز الشرطة، وفي ليلة كان ينتظر فيها حدوث ما حدث؟ وكيف لهم أن يقوموا ـ بحسب ما بينه الشريط التلفزيوني الذي أذيع ـ بما قاموا به بكل طمأنينة وهدوء، وكأنه لا أحد يطاردهم، أو يضغط عليهم للهروب من موقع الحدث؟
ما حدث يحيل ـ ولو من باب أن التاريخ يعيد نفسه ـ إلى ما جرى في بداية «الأحداث» حينما اكتفى الجهاز الأمني بالمراقبة ـ تقريبا ـ في أوائل الأيام حتى أغرى أكبر عدد من المتحمسين بالمشاركة.
ليست الخسائر الناجمة عن حوادث ليلة رأس السنة، ومنتصف ديسمبر/كانون الأول الماضي، تنحصر في زجاج تكسر، وواجهات تهشمت، وسيارات أحرقت، بل الأمر يمتد بعيدا إلى الحواجز النفسية التي بدأت في الارتفاع بين البحرينيين ومن سواهم، وهذا هو الأمر الأخطر.
إن تصيد هؤلاء الشباب للسيارات السعودية بالدرجة الأولى، والكويتية بالدرجة الثانية، يحيل إلى السؤال ذاته: «لماذا؟»
قيل أن الغالبية من الشباب الخليجيين إنما يأتون إلى البحرين بدوافع لا تخفى على أحد، ومن هنا تأتي ملاحقة هذه السيارات أساسا فيما جرى، نوعا من الرفض الشعبي للانحلال الأخلاقي، والسكر، والشقق المفروشة، وبيع اللحوم النيئة لمن يدفع.
ولكن هذا التفسير معرض للتداعي كون المظهر العام ـ على الأقل ـ للمشتركين فيما حدث لا يدل على أنهم من الذين تقفز لديهم الجوانب الدينية والأخلاقية لتشكل لديهم هما. كما أن عددا من شيوخ الدين والتابعين لهم سبق ونظموا المسيرات الرافضة «لتشويه سمعة البلاد»، وربما الترتيبات التي أجرتها وزارة الإعلام ـ على رغم المآخذ على آلية تطبيقها ـ جاءت نتيجة تطابق موقف عاهل البلاد الداعي لتكريس السياحة العائلية النظيفة وإحلالها محل سياحة الصالات و«المناهل» ـ الاسم الرسمي المخفف والملطف للحانات ـ والموقف الشعبي، ولكن لم تمتد يد التخريب في تلك الاعتصامات والمسيرات إلى ممتلكات الغير، أخذا بحرمة المال العام والخاص، وإفساحا للقوانين والتشريعات لتجري مجراها الطبيعي.
كما أنه لو لم تكن هناك «مغريات» للشباب الخليجي ـ بمن فيهم الشباب البحريني ـ لما ازدهرت على مدى العقد الماضي ـ تحديدا ـ الفنادق المتهاوية النجوم لتصل حتى إلى الفنادق غير المصنفة، فهذه المباني التي تحولت إلى فنادق، والحانات في الأماكن المعروفة لا تعيش خمسة أيام في الأسبوع إلا على أهل البلاد، وتنتعش في نهاية الأسبوع، وهذا أيضا يرد الاتهام بأن الخليجيين هم من سبب الفساد.
لا نريد هنا الدخول فيما يشبه «الحالة المصرية» التي استشرت منتصف السبعينات من القرن الماضي وصولا إلى الوقت الراهن، إذ كلما جرى الحديث عن انتكاسة الشعر، وأزمة النص المسرحي أو السينمائي، وتراجع الصحافة الرصينة، وانتشار الفساد والرشاوى، وغلاء المعيشة، وغيرها من الأمور؛ تم ردها إلى «أموال الخليج» و«نفط الخليج» هروبا من مواجهة المشكلة، وكسلا في البحث عن جوهرها، وخوفا من تحمل جزء من مسئولية ما حدث.
اعتقاد شخصي يبدو الأقرب إلى المنطق، أن ما حدث ينقسم إلى وجهين: الأول، أن الشباب في البحرين يشعرون بأنهم مهمشون من ممارسة الفعل، بعيدون عن اتخاذ قراراتهم، طاقاتهم تكبر وتتخزن ولا متنفس حقيقي لها، وينكشف عجز المؤسسات الرسمية والأهلية المتوجهة إلى الشباب عن استيعابهم وتنفيس طاقاتهم وإطلاق العنان لإبداعاتهم في البناء، بعيدا عن الهدم والتخريب.
واقعا، لا يمكن استيعاب قطاعات المجتمع كافة في هذه المؤسسات، وأيضا، فإن ما حدث ـ والذي ربما يتكرر مستقبلا ـ لا يقتصر على البحرين وحدها من دون دول العالم، ولكنه يستغرب عند تتبع إيقاع المجتمع البحريني وبنيته النفسية، ويدعو أيضا إلى مراجعة المؤسسات الرسمية والأهلية لخططها وبرمجها مراجعة لا تلقي الملامة على الأجهزة الإعلامية، واختلال التربية وتستريح من هم نقد الذات.
أما الوجه الآخر الذي أسفر عنه ما جرى، هو كل هذا المخزون من الأقاويل، والأقاصيص، والحوادث المتصادفة و المتعمدة، الصحيحة والمختلقة، التي يكون «أبطالها» شباب خليجيون، والتي غالبا ما تصب في نعتهم نعوتا غير لائقة، فكبر هذا المخزون وتعتق، وما هي إلا فرجة صغيرة حتى انفجر وذهب إليهم مباشرة ليفرغ فيهم نتاج السنين الماضيات.
لم تكن الصحافة بريئة مما يجري، فقد كانت كتابات ـ والحمد لله أنها ليست كثيرة ـ تنحو إلى افتعال القطيعة بين كل من هو بحريني ومن هو غير ذلك، من خلال محاولة إعلاء كعب المواطن وتحقير غيره من الجنسيات الأخرى، وترديد خرافة «السكان الأصليين»، والتهييج ضد الوافدين، سواء الزائرين أم المقيمين، وفي هذا لفت الأنظار إلى الاستعلاء الأجوف على كل من سوانا من البشر. ومع تخمر هذه الفكرة، قد يساور البعض اعتقاد بأنه يحق له أن يعامل الآخرين كما يهوى.
حسنا، لقد أفلحت مجموعة من الشباب في أن تلفت الأنظار إلى ما فعلته، وانتقلت أخبار ما جرى عبر وسائل الإعلام المحلية والعالمية، وإن كان لا فخر في ذلك، فماذا نحن فاعلون؟
إقرأ أيضا لـ "غسان الشهابي"العدد 119 - الخميس 02 يناير 2003م الموافق 28 شوال 1423هـ