كيف يمكن قراءة اسقاط طائرة تجسس أميركية من دون طيار في جنوب العراق ووصف مسئول كبير في الإدارة المركزية الأميركية إسقاط الطائرة بأنه خسارة كلية. ووصف مسئول أميركي آخر «إن الحادث مجرد ضربة حظ توافرت للعراق». وفي مؤتمر صحافي لوزير الدفاع الأميركي عقب الحادث، أكد رونالد رامسفيلد أن الولايات المتحدة ستتابع مهمة المراقبة في مناطق الحظر، كما أنها ستتابع العمل مع المعارضة العراقية، وستتابع العمل مع حلفائها للتأكد من امتثال العراق التام قرارات مجلس الأمن.
ومع أن الإدارة الأميركية حاولت التقليل من أهمية اسقاط طائرة الاستطلاع فإنها في معيار المحللين الاستراتيجيين تعتبر انجازا له قيمته، وتتجلى هذه القيمة في أن بغداد على رغم الحرب النفسية الشديدة الوطأة التي تتعرض لها، مستمرة في سياستها الهادفة إلى اسقاط منطقتي الحظر الجوي والتي لا تتمتع بأية شرعية. وأهمية ذلك تأتي مترافقة مع محاولة اميركا ابتزاز بغداد بهذا الخصوص عندما اعتبرت مقاومته للطائرات الأميركية والبريطانية في منطقتي الحظر الجوي تدخل في ما تعتبره واشنطن خرقا للقرار 1441. وهذا ما يعطي للتحدي العراقي بعدا اضافيا. لا سيما أنه يأتي بعد أن عرضت بغداد على الولايات المتحدة ارسال موظفين من (سي أي أي) ليكون ادلاء للمفتشين الدوليين وارشادهم إلى المواقع التي تزعم الادارتان الأميركية والبريطانية وجود اخفاءات عراقية لأسلحة الدمار الشامل فيها أو وجود أنشطة محظورة فيها. فمقاربة هذا العراض بالحادث تشي بأن مرونة بغداد لا تلغي تحسبها واستعدادها للحرب، وأن مرونتها هي بهدف تعزيز المواقف المناوئة للحرب التي تنشدها واشنطن. وهذه المرونة في حقيقتها تريد تدعيم الشكوك بالأدلة التي تدعي واشنطن امتلاكها بشأن امتلاك العراق الأسلحة المحظورة. بدوره يدعم حادث اسقاط الطائرة من جبهة الرفض للحرب وخصوصا داخل الولايات المتحدة نفسها باعتبارها لن تكون سهلة على الجنود. فواشنطن ومعها لندن وعلى رغم ما تتمتعان به من تفوق جوي كبير وغير قابل للمقارنة مع العراق فإنهما لم تستطيعا وعبر حرب أربع سنوات استمرت فيها المواجهات شبه اليومية مع الدفاعات العراقية ليس فقط حسم هذه المواجهات لصالحهما، بل أن المفارقة التي يؤكدها غير مسئول عسكري أميركي ان العراق استطاع أن يصعد من قدرته في التحدي والمقاومة والتصدي لهذه الطائرات. فبعد حوالي 46 ألف حملة جوية شنتها الطائرات الحليفة على العراق في هذه السنوات الأربع يأتي الحادث دليل اثبات على العجز الأميركي والبريطاني عن حسم هذه المواجهات.
وكل ذلك يلقي الظلال على المهمة الصعبة على الجنرالات الذين يعتقدون أنه بالإمكان تغيير النظام في العراق بسهولة، كما أنه يعيد إلى الأذهان تلك المقارنة ما بين العراق وأفغانستان. ففي العام (1991) شنت قوات التحالف (110000) غارة ضد العراق في مقابل (6500) غارة تعرضت لها أفغانستان لتسقط بعدها «طالبان» عن الحكم، كما ضربت وحدات الحرس الجمهوري العراقي بأكثر من (1000) غارة لكل وحدة منها، وبحسب تأكيد المصادر العسكرية الأميركية فإن عدد الذخائر الموجهة بدقة كان بمعدل 3 إلى 1 في العراق عما هو في أفغانستان، كما تم تحطيم (1500) عجلة عسكرية عراقية بمحتوياتها من الجو. وبحسب المقارنة التي يعدها الخبير الاستراتيجي الأميركي كينيث بولاك بين قوات «طالبان» والقوات العراقية من حيث الحجم والتنظيم والانضباط والخبرة، يخلص بولاك من مقارنته بين حرب 1991 على العراق وحرب 2001 على أفغانستان إلى استنتاج يذكره بمرارة بقوله: «بالاجمال شنت الولايات المتحدة حملة جوية مكثفة على العراق أكبر بكثير من حملتها على طالبان، وقامت بإيقاع ضرر أكبر على القوات العراقية. لكن التشكيلات القتالية العراقية الرئيسية لم تنكسر واستطاعت القتال بشدة أثناء الهجوم البري. وعلى أساس ذلك يمكن القول إن الجزء الأكبر من قوات صدام ستتمكن من الصمود بوجه هجوم جوي مركز، وسيكون أكثر القوات انهيارا قادرا على المواجهات البرية. لذلك فإن محاولة تطبيق النموذج الأفغاني على العراق سيجعل الولايات المتحدة عرضة لهجمات صدام المضادة بشكل خطير.
يدعم ذلك ما تبرره المفارقة الناجمة عن مواجهة السنوات الأربع الأخيرة، وفق ما أعلنته المصادر العسكرية بشأن الانجازات التي حققتها منذ عملية ثعلب الصحراء أواخر العام 1998، وحتى الآن في اطار المواجهات شبه اليومية بين الطائرات الانغلو أميركية والدفاعات العراقية التي قامت خلالها هذه الطائرات بأكثر من 45 ألف طلعة جوية وأسقطت خلالها قرابة 6700 قذيفة على نحو 1650 هدفا وقامت بتدمير - بحسب الجيش الاميركي - ما يقدر بحوالي 480 مدفعا مضادا للطائرات و120 رادارا و52 منصة متحركة للصواريخ المضادة للطائرات و84 مركز قيادة. فالملاحظ بعد كل هذه الانجازات ان العراق استمر في صموده وقدرته على منازلة الآلة الحربية الأميركية بكل ما يملكه من وسائل تقنية عالية ومتطورة، وحقق انجازات بعضها اعترف بها الجيش الأميركي وبعضها لم يعترف بها علنا. فهناك على الأقل - بحسب التأكيدات العراقية - نحو 15 طائرة مقاتلة أصيبت بنيران الدفاعات العراقية، فضلا عن الطائرات المسيرة التي اعترفت أميركا بتمكن العراق من اسقاطها، وآخرها اسقاط طائرة التجسس الأخيرة. وكان العقيد باك بير غيس - مدير غرفة العمليات الجوية لمراقبة شمال العراق - اعترف ضمنا بتصاعد التحدي العراقي في منطقتي الحظر عندما علق في وقت سابق «ان الاخطار تكثفت على حياة الطيارين الأميركيين، ولم يكن يمضي يوم واحد من دون تعرض الطائرات للنيران العراقية»، موضحا ان العراقيين اكتسبوا خلال الأشهر الماضية مهارة ملموسة في التسديد والتكهن بمواقع الطلعات وأوقاتها.
على أية حال من المؤكد أن البنتاغون الأميركي وجنرالاته سيعيدون الحسابات بعد هذا الحادث الأخير، واذا كان بعض الجنرالات قد أعادوا على مسامع وزير الدفاع توصياتهم بشأن اعادة النظر إلى طلعات المراقبة بما يؤدي إلى خفضها فوق الجنوب وقصرها على رصد التحركات العسكرية باتجاه الحدود مع السعودية والكويت، فإن رامسفيلد مازال رافضا هذه التوصيات، وهذا معنى كلامه بعد الحادث «ان الولايات المتحدة ستتابع مهمة المراقبة في مناطق الحظر».
وفي كل الأحوال رفع هذا الحادث من معنويات العراقيين وعزز اصرارهم على المقاومة، وتاليا فإنه من المؤكد سيترك تداعياته على التوجه الحربي الأميركي بشكل أو بآخر
العدد 118 - الأربعاء 01 يناير 2003م الموافق 27 شوال 1423هـ