هل وصلت الإدارة الأميركية إلى نقطة اللاعودة في قرار الحرب على العراق؟ اللاعودة تعني أن الولايات المتحدة بلغت مرحلة يسميها الباحث الاستراتيجي بول كيندي عن «صعود الدول العظمى وسقوطها» بفترة «التمدد الحيوي». والتمدد يعني بدوره وصول السوق القومية إلى مرحلة «الإشباع» وذروة الإشباع الداخلي هو العسكرة اي تحويل المجتمع إلى قوة حربية جاهزة للانطلاق في اي لحظة والخروج إلى العالم بحثا عن مصادر الثروة لتلبية حاجات القوة إلى مال وغذاء.
سابقا كانت هناك قوة مخيفة تلجم الولايات المتحدة وتحد من طموحاتها. فالاتحاد السوفياتي على رغم تجربته التوتاليتارية (الكلية والشمولية) شكل قوة ضغط موازية فشل في منافسة اميركا في مختلف حقول الانتاج والاقتصاد الا انه نجح في تشكيل جبهة عسكرية طموحة عندها القدرة على كسر القوة العسكرية الاميركية وانزال الهزيمة بها في اي مكان في العالم باستثناء محيط الولايات المتحدة الجغرافي في اميركا اللاتينية. هذا التوازن المخيف املى على واشنطن سياسات دولية اتسمت بالحذر وعدم استفزاز مصالح موسكو. واضطرت الادارات الاميركية على انواعها بعد نهاية الحرب العالمية الثانية إلى اتباع سياسات مزدوجة قامت على فكرة فصل الاقتصاد عن الايديولوجيا.
عملية الفصل بين السياسة والاقتصاد ادّت في فترة «الحرب الباردة» إلى تجميع المال في جبهة من الحلفاء وعزل الكرملين ومحاصرته اقتصاديا بقصد ضبط عناصر قوته ومنع انتشارها والضغط عليه في جبهة اوروبا الشرقية لاجباره على تجميعها في منطقة جغرافية محددة.
الآن انتهت تلك السياسة بانهيار الاتحاد السوفياتي وخروج روسيا من ساحة المنافسة الدولية. هذا الخروج من حلبة الصراع انتج سلسلة فجوات (فراغات) أمنية شكلت مناطق اضطراب للعالم في العقد العاشر من القرن الماضي. وانتهت الاضطرابات باعادة تجميع الاجزاء الاوروبية منها في دائرة الاتحاد الاوروبي ومظلة الحلف الاطلسي (الناتو) بينما ظلت المناطق الآسيوية من غرب الصين إلى شرق اوروبا إضافة إلى الشرق الاوسط خارج إطار السيطرة الدولية.
هذه المناطق «المارقة» اعتبرتها واشنطن حصتها من غنيمة نهاية «الحرب الباردة» في وقت لم تعد روسيا تلك القوة المخيفة التي تستطيع مواجهة أميركا وتعطل طموحاتها وتحدد من نزوعها إلى السيطرة والتفوق.
قعدت أميركا عشية تفكك «المعسكر الاشتراكي» تنتظر الفرصة وتبحث عن مناسبة لاعطاء إشارة المرور والخروج عسكريا من دائرة نفوذها. في «الحرب الباردة» مالت واشنطن إلى استخدام الوسائل المدنية (الشركات) المصارف، التجارة، الإعلام والسينما لترويج نموذجها الا في حالات اضطرارية كما تكرر الامر في كوريا وفيتنام وكوبا ولاوس وكمبوديا وغيرها. كذلك لجأت إلى استخدام القوة من طريق طرف ثالث أو من خلال اجهزة المخابرات (الانقلابات والاغتيالات) في حال فشلت وسائلها الاخرى كما حصل مرارا في إفريقيا (دعم النظام العنصري في جنوب إفريقيا) وأميركا اللاتينية (انقلاب تشيلي ضد نظام منتخب ديمقراطيا).
الاستثناء الوحيد كان «الشرق الاوسط» إذ حددت واشنطن سياسة ثابتة وهي دعم «اسرائيل» ضد العرب من دون تردد مقابل دعم العرب ضد الاتحاد السوفياتي. واسهمت هذه السياسة في انتاج استراتيجية ملتبسة تقوم على فكرة مزدوجة وهي إضعاف الدول العربية في وجه «اسرائيل» والخطر الصهيوني وتقوية الدول العربية في مواجهة ما كانت تسميه «الخطر الشيوعي».
هذا الالتباس أسس مشاعر متفاوتة بين الدول العربية (الحليفة تقليديا للولايات المتحدة) وأميركا الحليفة الدائمة لاسرائيل. وعبر الالتباس في العلاقات عن نفسه بسلسلة من التوترات السياسية نجحت واشنطن في احتواء عناصر تفجرها باستخدام أساليب ملتوية في تأجيل القضايا الساخنة بذريعة وجود خطر استراتيجي دولي يدعى الاتحاد السوفياتي.
وغاب الاتحاد السوفياتي وغابت معه الحاجة الأميركية إلى تلك الاستراتيجية الملتبسة مع الدول العربية. فاستمرت في دعمها الثابت لحليفها التقليدي في المنطقة معتبرة «الشرق الأوسط» من مناطق الفراغات الامنية التي تحتاج إلى ضبط وإعادة سيطرة مباشرة تمهيدا لصوغ شخصية جديدة لهذه الدائرة الخطيرة والحساسة من العالم.
هذه الاستراتيجية الأميركية جاءت في موعد تاريخي مع مسألة «التمدد الحيوي» للولايات المتحدة. فروسيا بعد اضمحلال شيوعيتها لم تعد تخيف الدول العربية لكنها باتت غير قادرة على مساعدتها. و«اسرائيل» تريد الافادة من الغضب الاميركي والهياج العسكري ضد ما تسميه المخاطر الاصولية المتأتية من العالمين العربي والاسلامي لتنفيذ خططها الخاصة في المنطقة. واميركا تريد «الشرق الأوسط» لاستكمال ما انجزته في افغانستان وآسيا الوسطى ودول حوض بحر قزوين.
ومجموع النتيجة أن الإدارة الأميركية وصلت إلى نقطة اللاعودة في قرار الحرب على العراق. وبقي علينا انتظار إشارة الهجوم... وهي آتية
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 118 - الأربعاء 01 يناير 2003م الموافق 27 شوال 1423هـ