نشرت رواية الكاتب اليمني وجدي الأهدل «قوارب جبلية» منجمة في الصحافة العام 1998، واحتاجت بذلك إلى سنوات قليلة حتى تثير زوبعات لم تهدأ بعد، ما اضطر الكاتب إلى الفرار من بلده خشية تعرضه للأذى، وفي منتصف ديسمبر/ كانون الأول الماضي وجه الروائي الألماني الشهير غونتر غراس إلى ضرورة عدم المساس بشخص الكاتب، ما دعا رئيس الجمهورية اليمنية إلى توجيه دعوة إلى الكاتب للرجوع إلى بلده.
ورواية «قوارب جبلية» التي صدرت طبعتها الأولى العام الماضي 2002 عن مركز عبادي للدراسات والنشر باليمن، أعادت دار رياض الريس البيروتية نشرها، وطبعت على الغلاف الخارجي عن المؤلف: «... الذي سيتذكره القراء العرب جيدا من الآن فصاعدا، ويختبرون أسلوبه الساحر المؤلف من ذكاء لماح وسعة أفق وانحياز للإنسان المعذب والمتألم في صبوة ربما لا تملكها سوى فطرة يمنية تتكئ على أرستقراطية الحضارة»... ولأنني لا أثق بما يدبجه هذا الناشر أو غيره على أغلفة كتبه / كتبهم، وبسبب تجارب سابقة لكتب أثارت من البلبلة ما أثارت، ودفعتني كما دفعت غيري للاطلاع عليها، فكانت النتيجة صدمة خفيفة، بسبب ركاكة هذا الكتاب، ونيله شهرة من دون أي استحقاق يقف وراءه تميز إبداعي، أو حمولة فكرية ذات رصانة ووجاهة.
وظللت مترددا طيلة أشهر من الاقتراب من هذه الرواية على رغم ابتعادها عن يدي مسافة أشبار معدودة في المكتبات، خشية أن أعيد الكرة مرة أخرى، وأخرج بالنتيجة ذاتها، فأضيع وقتي من دون أن أقف على عمل مبدع... لكن بعد هذه التجاذبات والمنازعات قررت قراءة هذا العمل، وكانت النتيجة هذه المرة مبهرة، ولم تكن بالحسبان بسبب من الصدمات السابقة.
والرواية - 119 صفحة من القطع الصغير - تغضب ولا شك كل من سمع عنها، وهذه من المشكلات الثقافية التي نعانيها منذ القدم، فيكفي أن يقوم أحدهم ويلهج ببضع مفردات تحريضية على هذا أو ذاك، حتى تعلو صيحات الاستهجان من ورائه بالعشرات أو بالمئات مطالبة بالقصاص، وتبدأ هنا المزاحمات التأويلية تأخذ مداها الأوسع، فهذا يدعي كذا، وذاك يزيد من جرعة السباب والوعيد، وثالث يطعن في شخص الكاتب وفي أخلاقه... وتتسع الدائرة إلى أبعد حد.
لكن قارئ هذه القوارب سيراها تبحر في كل اتجاه، وتدين كل الأطراف، بل وتسخر منهم، وتمعن في السخرية إلى أقصى الحدود، وتتجه بخطاباتها نحو إزالة القشرة الهشة التي يلتحف بها الكثير من الأنماط الشخصية ذات الحضور في الرواية، من دون حصر هذا التهكم أو السخرية تلك على طرف معين. وبهذا المعنى، تتجه الرواية نحو إزالة القشرة الهشة التي يلتحف بها هذا أو ذاك سواء بسواء، من دون حصر هذا التهكم أو تلك السخرية أو الإدانة بالتعبير الأدق على طرف معين من دون غيره.
إن الرواية تحاول الولوج ببساطة إلى فسيفساء المجتمع الذي تنطلق منه، وإلى بعض الأنماط نتاج هذا المجتمع، ومن ضمنها مختلف الأطياف من دون تمييز بقصد الفضح... فضح الممارسات والسلوكيات... وبسبب من ذلك، تحمل الرواية خطاب إدانة صريحة، ويكفي القارئ الاطلاع على الفصل الأول منها - وهو الفصل الأطول - حتى يصطدم بالنماذج الإنسانية العديدة، فمنها المهووس، ومنها المريض، وتحضر الشخصية المنافقة التي يجافي أفعالها أقوالها، وغير ذلك من التناقضات البديعة - والمضحكة - التي مهد بها راوي العمل، ومنها نقرأ مثلا: «وفي ختام خطبته المجلجلة، أعلن زعيم المعارضة عن تبرعه بشاربه الأيسر ليصنع منه المهندسون (تلفريك) يصل بين باب اليمن وقمة جبل نقم، وعن تبرعه بشاربه الأيمن للأغراض الطبية ليصنع منه الأطباء فتلات لخياطة الفتوقات...» وهذه قصة من بين الكثير من القصص، ووسط هذا الخليط العجيب تبدأ ملامح بطلة العمل في الانكشاف شيئا فشيئا.
بهذا التصور المبدئي يسير الخطاب العام لهذه الرواية في أكثر من اتجاه، يمكن تلمس خيوطها العامة في اتجاهين الأول في المشهدية العامة - المشار إليها - والثاني يتمحور حول قصة «سعيدة» ابنة الخمسة عشر ربيعا، والتي لا تخلو قصتها بدورها من هذا التهكم المريع.
يصف الراوي سعيدة بأنها متخلفة عقليا وتطوف طوال النهار لتشحذ من المارة، وأن كفها مصاب بفطريات أدت إلى تشقق الجلد ونمو العفن... وبسبب من اخضرار يدها فإنها تدر الشفقة في قلوب المارة، وترتزق لتعول عائلتها الكبيرة التي كانت في رغد من العيش بسبب الكف المتعفن، وتصاب بكسر في يدها، ما يترك أثرا غائرا وتضيع من ثم هيبة عائلة سعيدة الاقتصادية... في هذه الأثناء يقوم الأخ الأكبر بتنفيذ حكم الردة في الأخ الأصغر بحرقه حيا، ما يدفع سعيدة إلى الهرب بعد أن وصلت إلى أنفها رائحة الجلد الإنساني، وإلى بصرها الجسد المتكور المشوي، تلتجئ إلى بيت مهجور ليقيها رعب ما كانت فيه، فإذا بالبيت المهجور أكثر رعبا، وتظل على هذا الحال حتى يأتيها المخلص «سيف» الذي يعاني بدوره من زوج أمه شرمان القليس، وبعد أن يفك أسرها من الحبشي الذي يحتل البيت المهجور، يذهب بها إلى قصر القليس الذي يريد أن يحكم العالم إذ يقوده جنون العظمة إلى محاولات مستميتة لإعادة استنساخ الملكة بلقيس، وتحاول سعيدة ومعها سيف ووالدته وإحدى وصيفات القصر إبطال مشروع شرمان، وذلك بإجهاض يكسوم الحبشية التي تحمل في رحمها البلقيس المستنسخة، وتنجح المحاولة، وعلى إثرها يلقى سيف مصرعه إثر مواجهته زوج أمه، وتلجأ بعدها سعيدة إلى أحد المساجد هربا من بطش شرمان وزبانيته، فيقرر إمام المسجد الزواج منها بعد إجراء الفحوص عليها والتأكد من سلامتها، وتنتقل بعدها إلى متاهة جديدة وتنتهي الرواية بـ «حين وضعت قدمها على عتبة الباب، حارت أية سكة تسلك، فلما استخارت ربها انبلجت من سرتها سكة فسارت فيها... فإذا السكة بداخلها سرة، والسرة بداخلها سكة أخرى، والسكة الأخرى بداخلها سرة أخرى إلى ما لا نهاية من السرار والسكك الداخلة في بعضها بعضا...».
وهكذا تنتهي الرواية، مثلما ابتدأت، حالات من الضياع والشتات والتمزق والفساد الأخلاقي، شخصيات عابرة تخلع صفاتها على الشخصيات المقيمة الرئيسية، وتأخذ مداها في التشكل والبوح، ومهما حاولت في فتح كوة يشع منها الضياء، فإنها إما أن تلقى مصرعها حال سيف... أو تقف مشدوهة أمام متاهات السكك المفتوحة من دون أن تعرف أية وجهة تسلك، أو أية طريق تتخذ... في ضوء معطيات وعلامات هائلة مفرطة في التسيب، وعلى هدي معيشة كل العناصر فيها مدانة، وكلها لم تستطع أن تتحرر من هوامش الرياء، أو من التفيهق بعوالم ومبادئ المثل العليا مهما يكن مظانها، في حين ترزح الأفعال في واد أحيط بكل المكاره.
ويتميز هذا العمل بالحس الساخر اللاذع، على ثلاثة مستويات: مستوى الصفات الشخصية، مستوى الأفعال، ومستوى الخلاصات أو النهايات، بما يجعلنا نقر بالقدرات الاستثنائية التي حبك بها الراوي خيوط لعبته، ونجح في الإمساك بها جميعا بقوة، موزعا الحوادث بهندسة محسوبة، بحيث تتساوى الفصول حجما وحوادث، باستثناء أول الفصول الذي كان بمثابة الديباجة المبهرة، والمهاد اللافت الذي استنطق الراوي خلاله مختلف التعرجات الأخلاقية، والأبعاد الإنسانية بخصوصيتها السالبة، بما يجعل تقبل كل ما يأتي لاحقا مفهوما في ضوء الطقس الابتدائي، الشبيه بفعل الكاميرا التسجيلية التي تتحرك في كل الاتجاهات، ملتقطة حركة من هنا، وثيمة من هناك مستجلية مختلف النواقص والسلبيات، ومؤكدة من جهة أخرى قدرات تبشر بولادة روائي يمتلك أدواته، وقادر على إقامة مختلف الجسور بصنعة تتكئ على موروثات هائلة، وعلى - وهو الأهم - تحريك الشخصيات زمانا ومكانا بمقدرة وكفاءة عاليتين.
إن حس السخرية الذي التصق بالفضاء العام بجميع عناصره المشكلة له، مثل أبرز ما يقف عنده القارئ، ولذلك كانت الشخصيات المحيطة - الفواعل - كلها ذات قوارب كاريكاتورية مضحكة، كشرمان القليس الذي يصفه الراوي - وهذا مثال -: «... رجل قصير القامة دميم الخلقة، ولكن شاربه كحبل الغسيل... قام بتوظيف خادمين مهمتهما حمل شاربه المفدى في كل أرجاء القصر، وذلك خوفا على شاربه البالغ طوله ثلاثة أمتار وبضعة أشبار من عشرات القطط»، وربما كانت هذه السخرية اللاذعة، سبب سخونة تلقي هذا العمل، لكن ذلك غير مبرر، ولا سيما أنها انطلقت كالمدفع في كل الاتجاهات من دون تركيز، ولم تكن تهدف إلى شيء سوى تصوير هذا العبث، وهذا الادعاء الذي يسربل هذا المجتمع في حيز مكاني محدد «باب اليمن»، وبالإمكان سحب هذا الكلام على أي مجتمع يتناسب مع الأطروحة العمومية وهي أن أقواله لا تلحقها أفعال، وأفعاله لا تناسب أقواله، وهيئته الخارجية يبطلها ما يدور في دواخله، ودواخله تناقض المظهر الخارجي، وهكذا دخول متشظ إلى دوامات ومتاهات لا قرار لها، ولا انعتاق منها