الولايات المتحدة ماضية في تنفيذ مهمتها لغزو العراق ووضع يدها على نفط العراق وتثبيت أقدامها بالمنطقة، فهي ما جاءت لتخرج وإنما لتبقى بما يحقق مصالحها العليا. ولكن هل من سيناريو آخر يمكن أن يسمح به الخيال وسط كل هذه العتمة الخانقة؟
من ينقذ العراق؟
التنازل يجر التنازل، وحتى لو تعرى العراق وقام المفتشون بتفتيش كل فتاة عذراء وطفل كسيح أو عجوز عراقية لا تقوى على المشي... لما اثنى ذلك أميركا عن ضرب العراق واحتلال حقول نفطه.
أميركا تعرف ما تريد، وهي ماضية في تحقيق مخططها. ومن البلاهة أن تعتقد الحكومة العراقية انها ستفلت من المقصلة إذا ما استجابت لكل مطالب أميركا التعجيزية والتركيعية، ونحن نراقب الأحداث تتفاعل يوما بعد يوم لعلى ثقة بأن العملية تسير هذه الأسابيع لمجرد كسب الوقت. إنها أشبه ما يكون بالوقت الضائع الذي يعمد فيه الفريق المتفوق للحفاظ على تقدمه حتى تنتهي المباراة بضمان فوزه. فأميركا لا تبحث عن مبرر، فهي إذا لم تجد مبررا اختلقته، ونحن لم ننس غزوها لأفغانستان بدعوى البحث عن أسامة بن لادن، ولكن بعد عام واحد لم يعد أحد من أقطاب البيت الأبيض يكترث له أو يتكلم عنه، اللهم إلا إذا ذكرهم به صحافي مشاغب على هامش مؤتمر صحافي هنا أو هناك. أنه يذكرنا ببيت نزار قباني عن الحب على الأرض: «الحب في الأرض بعض من مواهبنا... لو لم نجده عليها لاخترعناه». ألم تلاحظوا انهم نسوا ولم يعودوا يفكرون أو يتحدثون حتى عن الانسحاب من أفغانستان بعد أن طاب لهم المقام؟! فالمهمة «المقدسة» لم تنته فصولها، إنما نحن نشهد منها البدايات.
مسلسل التنازلات
كل التنازلات لن تنفع ولن تجدي في ثني الولايات المتحدة عن مخططها. أمامها مهمة كبرى: سوق النفط وسوق السلاح، ولكل منهما ممثلون مخلصون ومدافعون شرسون عن مصالحهما في إدارة بوش. فهي تعمل إذن وفق استراتيجية واضحة لها ولا تبني سياساتها على ضوء إيحاءات اللحظة الراهنة. وهي سياسة اتضحت معالمها أيضا من منتصف الطريق لحلفائها وزملائها الكبار، الذين أدركوا أبعاد المسألة جيدا فأخذوا يسايرونها ويلاينونها ويهادنونها في كل ما تفعل، وإن تمنع بعضهم بشأن ما تقول. لا الصين ولا روسيا ستعارضان، وبالاحرى فرنسا التي أرادت أن ترفع صوتها قليلا لتكسب بعض الأصوات في الشرق الأوسط، ولكنها - كغيرها - فرقعة من دون انفجار!
ليت الحكومة العراقية تدرك ذلك، فلا تذهب إلى نقطة النهاية في ميدان التنازلات المهينة، ليس تصعيدا للمواجهة، فالمواجهة لن يحددها العراق ولا العرب ولا الأمم المتحدة على الإطلاق، وإنما سيحددها البيت الأبيض وحده. وكل تنازل سيجر إلى تنازل أسوأ منه، هذا ما يقوله التاريخ، وهذا ما يفرضه منطق القوة وطبيعة الأمور في مثل هذه الظروف الحاسمة من مواقف وسياسات إبتزازية. والمشكلة هنا هي أن هؤلاء المفتشين الجوالين من مختلف الجنسيات، هم من سيقوم بتزويد أميركا بكل ما تحتاجه من تفاصيل لتحديد الأهداف المطلوب قصفها أميركيا، وهم الذين يلعبون دور مخلب القط، أو قرن الأستشعار الحساس، فإذا جاءت ساعة الصفر سيتم سحبهم ليبدأ رجم العراق بالصواريخ والقاذفات بما يخدم سياسة «الإدارة» الأميركية وحدها.
السيناريو المستحيل
وفي واقع العجز العربي، شعوبا وحكومات، ربما يكون الوحيد الذي يمكن أن يفعل شيئا يمكن أن يؤثر فعليا على مسار الأحداث، هو صدام حسين. هناك أخبار تداولتها الصحافة قبل شهر أو أكثر، روجت لاحتمال استقالته وتنازله عن الحكم ليلجأ إلى دولة عربية أخرى. تلك ربما أمنية للبعض، من أجل العراق وشعب العراق وحضارة العراق... خصوصا وأن الكل ينتظر عاجزا ما ستعصف بالعراق في الفترة المقبلة من عواصف وأنواء.
الحرب مقبلة لا محالة، وليس في مواجهة العاصفة من بطولة إلا كما كان لـ «دون كيشوت» من بطولة في مواجهة طواحين الهواء! ولن يكون لصدام من ذكر حسن في التاريخ حتى لو ركب دبابة وأخذ بإطلاق النار على الدبابات الأميركية الغازية، ولو أنه لم يعرف عنه هذه الخصلة في حياته كما يقول العارفون.
إذن الاعتزال هو السيناريو «المستحيل» الذي سيورط أميركا فعلا، فهي ستجد نفسها لأول مرة منذ عشرين عاما في مواجهة «طواحين الهواء» منذ أن بدأت تحشد جحافلها وأساطيلها في الخليج.
ماذا لو فعلها الرئيس العراقي وخرج من العراق اليوم، ليس هربا بجلده، بل حفاظا على ما بقي من العراق. فليفعلها هذه المرة ليسجل اسمه في خانة من أنجز شيئا للعراق، وإن كان من باب درء المفسدة لا من باب جلب المنافع للعراق!
في زمن الكوابيس الأميركية السوداء... هل نمني أنفسنا بالأحلام الجميلة نحن محبو العراق الذين تتوجع قلوبهم كل يوم على شعبه وما يعيشه من محن وكربات؟ أم كتب علينا الانتظار لمشاهدة الحرائق تتعالى في عنان سماء روما ونيرون يعزف قيثارته على الأطلال؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 117 - الثلثاء 31 ديسمبر 2002م الموافق 26 شوال 1423هـ