في المشهد الفلسطيني، يستمرّ مسلسل التشريد للعائلات الفلسطينيّة من منازلها، ليُلقى الفلسطينيّون في الشوارع، ويستولي اليهود على بقيّة منازل القدس شيئا فشيئا، وصولا إلى الدولة اليهوديّة الصافية التي تعهّد بها بوش، ويتحرّك الرئيس الحالي للولايات المتّحدة الأميركية في ما يُشبه التغطية لكلّ ذلك، عبر دفع العرب للتطبيع مع العدوّ حتّى في ظلّ هذا الواقع الذي تزداد فيه أعداد اللاجئين الفلسطينيّين بدلا من تطبيق حقّ العودة، وتكاد تزول فيه القُدس في معالمها الإسلاميّة والعربيّة أمام اعتبارها عاصمة للدولة الفلسطينيّة الموهومة.
إنّ ما يحدث في هذه الأيّام في فلسطين المحتلّة، وتحديدا في القدس، ليس مجرّد طردٍ لعائلات فلسطينيّة من بيوتها، ولكنّه إلقاءٌ لقضيّة فلسطين كلّها على قارعة الطريق، واستباحة واقعيّة وسياسيّة لأمّة بكاملها، واستهانةٌ مذلّة بكلّ ما هو عربيّ وإسلاميّ، حيث لا يجد العرب الرسميّون، الذين نقل عنهم المبعوث الأميركي إلى المنطقة أنّهم تحدّثوا معه بما يخالف تصريحاتهم، أيّ مصلحةٍ في إطلاق أيّ موقفٍ قويّ، حتّى على مستوى عدم اللقاء بهذا المبعوث الأميركي أو ذاك، فضلا عن الإعلان عن تعليق مبادرتهم أو الدعوة للقاء طارئ يدرس تداعيات الواقع في فلسطين...
إنّنا نقول للشعوب العربيّة والإسلاميّة التي ربّما استسلمت لكثير من الأوضاع الضاغطة التي تمارسها الأنظمة: إنّ أبسط ما يجب أن تفعلوه تجاه هذا المنكر الصريح في فلسطين هو إطلاق الصوت عاليا في كلّ الشوارع والساحات، للتعبير عن رفض ما يجري اليوم تجاه القضيّة الفلسطينيّة، في ظلّ الصمت العربيّ الرسمي المريب...
لقد كانت لعبة الأمم تتحرّك في الفترة الماضية لتضرب على الوتر المذهبي، السنّي الشيعي، من أجل شرذمة الصفّ الإسلامي الواحد الذي قدرُه الوحيد هو أن يتّحد لا في الشعارات، بل في خطط الحركة، وأن يعيد ترتيب أولويّاته بما ينسجم مع ما يريد الله تعالى ورسولُه، في رفض الظلم والاحتلال والاغتصاب لبلاد المسلمين في فلسطين، كما في كلّ مواقع الأمّة الإسلاميّة...
ولقد حذَّرَنا رسولُ الله (ص) من عمق التاريخ حيث قال: «يوشك أن تداعى عليكم الأمم كما تداعى الأكلةُ على قصعتها»، فقيل له: أمن قلّة بنا يومئذٍ؟ قال: «بل أنتم يومئذٍ كثير ولكن تكونون غثاء كغثاء السيل، ينتزع المهابة من عدوّكم ويجعل في قلوبكم الوهن»... وكيف بنا اليوم وقد اختلفنا على حقّنا، وعندنا كتاب الله، حبلٌ ممدودٌ من السماء إلى الأرض، واتّحدت الأمم كلّها على باطلها في مواجهة قضايانا المصيريّة والحاسمة؟!
وإنّنا في هذه المناسبة، نقول لكلّ الفصائل التي كان مبرّر وجودها التاريخي والحاضر، أنّها فصائل مقاومة وتحرير: إنّ قضيّة فلسطين لا تعنيكم وحدكم، فضلا عن أن يحتكرها فصيلٌ واحدٌ منكم، وليس لأحد الحقّ في التنازل عن أيّ شيء منها لصالح المحتلّ الغاصب؛ لأنّ القضيّة هي ملك كلّ المسلمين وكلّ العرب؛ لأنّها تتّصل بالتاريخ والحاضر والمستقبل، كما تتّصل بالأرض والمقدّسات... وإنّنا ندعو الشعب الفلسطيني الذي أثبت أنّه الشعب الذي يشبه الشعب المعجزة أمام كلّ محاولات الإلغاء، لأخذ المبادرة في الضغط على قياداته لنبذ الخلافات الهامشيّة، والتوحّد في إطار مواجهة الاحتلال؛ لأنّ هذا هو السبيل الوحيد لتحقيق الانتصار على كلّ مخطّطاته.
وعلى خطّ آخر، تتوالى الضغوط الأميركيّة على العرب الرسميّين لحثّهم على القبول بالشروط الإسرائيليّة للتسوية، تحت عنوان القيام بخطوات جديدة، والضغط على بعض الدول العربيّة لنشر صواريخ أميركية وقواعد اتّصالات مركزيّة، في إطار مظلّة دفاعية بوجه إيران نوويّة - كما سمعنا عن ذلك في بعض وسائل الإعلام - ليتّضح الهدف من تخويف هذه الدول من إيران، ليس على صعيد صفقات الأسلحة فحسب، بل لإقامة المزيد من القواعد العسكريّة في بلدان عربيّة جديدة، بما يؤسّس لاحتلال واقعي موضعيّ واحتلال سياسي واقتصادي أوسع.
إنّنا نحذّر من الخطّة التي تعمل لها الإدارة الأميركية التي تبحث عن مصالحها في قلب المصلحة الإسرائيليّة، وتعمل للتمركز في أكثر من مكانٍ في قلب هذه الأمّة، لتوسّع من دائرة انتشارها العسكري والأمني والسياسي بعد فشلها الذريع في العراق وأفغانستان، وندعو القوى الحيّة في الأمّة لرفض هذا الاحتلال المقنّع، كما رفضت الاحتلال المباشر.
أمّا في لبنان، فقد تخدّر الناس أمام حركة الخطاب السياسي، وفي الخلافات حول مسألة المحاصصة التي تبدأ من تشكيل الحكومة ولا تنتهي عند الوظائف الصغيرة، ليستغرق المواطنون في اللعبة السياسية على حساب همومهم المعيشية، وأزماتهم الاقتصاديّة التي يزيدها تقنين الكهرباء ظلاما، وانتشار الغشّ والخداع في السلع الأساسيّة تردّيا، حيث لا رقيب ولا حسيب؛ لأنّ الكلّ غائبون عن معاناة الناس وتحدّيات المستقبل...
لقد أدمن اللبنانيّون هذا النموذج العجيب من العمل السياسي، حتّى باتوا يستوحشون في كلّ مفترق سياسي ودستوريّ إذا ما تحرّك المسئولون بشيء من المسئوليّة التاريخية أمام مصير الشعب، في حاضره ومستقبله؛ لأنّ اللبنانيّين أدمنوا فكرة أنّهم لا يستطيعون أن يديروا البلد إلا بعجلة خارجيّة، وأن سفينة بلدهم لا تتحرّك إلا بدفعٍ إقليمي أو دولي، حتّى بتنا شعبا لا يعرف ماذا يريد في واقع الأمور، وإن كان ينظم القصائد الطوال في ما يريده على مستوى الشعارات والعناوين الفارغة من أيّ مضمون حقيقيّ، وأصبحنا بلدا يغري الآخرين باستعماره سياسيّا واقتصاديّا وأمنيّا حتّى الغثيان.
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 2528 - الجمعة 07 أغسطس 2009م الموافق 15 شعبان 1430هـ
عين الصواب
بارك الله فيك سيدنا، تحليل يعكس واقعنا المظلم، اللهم عجل فرجه وسهل مخرجه، وصلى الله على رسوله وعلى آله الطيبين الطاهرين وصحبه المنتجبين،،،