العدد 2525 - الثلثاء 04 أغسطس 2009م الموافق 12 شعبان 1430هـ

قبل الترحم على أيام الاستعمار

عبيدلي العبيدلي Ubaydli.Alubaydli [at] alwasatnews.com

كاتب بحريني

تسود بعض الأوساط السياسية نبرة تشاؤمية حادة عند تناول الأوضاع السياسية الراهنة، تغلب عليها لوعة المقارنة بين ما كانت عليه تلك الأوضاع إبان الحقبة الاستعمارية، وما آلت إليه اليوم.

تصل النقاشات في سوداويتها لدى البعض إلى درجة «الترحم على أيام الاستعمار»، ولا يتردد هذا البعض في الذهاب في سخريته الممزوجة بالمرارة والحسرة إلى مستوى الدعوة إلى الله بعودة تلك الأيام التي كانت فيها القوى الاستعمارية، رغم نهبها لخيرات البلاد، لكنها كانت قادرة على أن «تحافظ على الأمن والاستقرار، وتحقق التقدم، وإن كان بطيئا، وتضمن بعض أشكال العدالة، على رغم هشاشتها».

تعبر هذه الحالات عن مدى الإحباط الذي اسستشرى في نفسية المواطن العربي، وعمق انغراسها في ذهنيته إلى درجة أنه بات وكأنه يحاول أن يقف ضد حركة تاريخ تطور المجتمعات وآليات تقدمها، وهو سلوك يمكن لمن يتابع أوضاع الحركة السياسية العربية على مدى الخمس وسبعين سنة أن يتفهمه، حتى وإن اختلف معه. فمن نكبة فلسطين، مرورا بسلبيات، وهزيمة الأنظمة الجمهورية العربية التي قادتها القوى السياسية القومية واليسارية، والتي طرحت نفسها، وصدقها المواطن العادي، على أنها الرافعة التاريخية، التي «ستطهر المنطقة العربية من القوى الاستعمارية والذيول المحلية المرتبطة بتلك القوى»، على حد ادعاءات تلك القوى، وعلى أنها في الوقت ذاته، المؤهلة تاريخيا لتحقيق التحولات الديمقراطية، بشقيها السياسي والاجتماعي، التي تحتاجها البلدان العربية، الأمر الذي جردها من القدرة على طرح النموذج الأفضل البديل لما كان قائما، انتهاء بعودة القوى الأجنبية، في أثواب جديدة، وأشكال مختلفة، وسط ترحيب شعبي، غير متوقع، كما شاهدها المواطن في الكثير من البلدان العربية، لعل أسطع أمثلتها الكويت بعد غزو صدام لها، والعراق بُعيد الإطاحة بهذا الأخير.

ولو حاولنا إلقاء نظرة سريعة على تاريخ البحرين المعاصر يمكن أن نقف عند محطتين أساسيتين أولاهما في السبعينيات والثانية القائمة اليوم، مارست نتائجهما دورا في تعزيز تلك النظرة السوداوية لدى المواطن العادي:

1. مرحلة السبعينيات، عندما نالت البحرين استقلالها، وبدأت معها الاستعدادات لبناء الدولة بكل مؤسساتها، بما فيها المؤسسة التشريعية التي تمخضت عنها ولادة المجلس الوطني، كسلطة تشريعية، تستمد سلطتها وصلاحياتها من دستور 1973.

لم تنعم البلاد ومعها المواطن طويلا بمرحلة المجلس الوطني ورياح الانفتاح السياسي التي رافقتها، حيث ارتدت تلك المرحلة بحل المجلس وهو ما يزال في مرحلة الصبا، وأنشبت أنيابها في مؤسسات الدولة كي تتمكن من إقناع مؤسسات الدولة المعنية بسن قوانين جائرة تربع على قمتها قانون أمن الدولة، الذي أدخل البلاد في غياهب أسود مرحلة عرفها تاريخ البحرين السياسي المعاصر، لم تنقذها منه سوى مرحلة الميثاق الوطني، والدستور الذي انبثق عنه. حفرت هذه المرحلة في نفسية المواطن، وبعمق، شعورا بخيبة الأمل السياسية، وصلت إلى مستوى فقدان الثقة في الكثير من قيم النضال السلمي وأساليبه والمعتقدات السياسية التي تقف وراء التنظير له، وأجبرت المعارضة البحرينية من جراء ذلك على العودة، دون التفريط بأشكال العمل السلمي، إلى أساليب العنف للرد على أشكال القمع التي رافقت تلك المرحلة، التي توجتها أحداث التسعينيات عندما تحوّلت لغة الحوار، بين المواطن والدولة، من مقاعد البرلمان، كما كان يتمنى المواطن، إلى اسطوانات الغاز، التي أرغمت الظروف القمعية القائمة حينها، دون أن نبرر لذلك، على تفجيرها.

2. مرحلة الميثاق الوطني، عندما أقدم عاهل البلاد جلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة بتقديم مشروع متكامل ينتشل البلاد من نفق قانون أمن الدولة المظلم، إلى رحاب الميثاق الوطني الواسعة والواعدة، وما نتج عنه من سلطة تشريعية بغرفتين إحداهما منتخبة وأخرى معينة، حاولت بعض القوى التي رضعت من لبن قانون أمن الدولة الالتفاف عليها، وبدأ الشارع السياسي البحريني يسمع اجتهادات وإيحاءات تسعى إلى إعادة البلاد إلى دهاليز ذلك القانون مثل محاولات التمييز بين مفهومي «العمل السياسي»، و «التعامل بالسياسة».

تصدت الحركة السياسية البحرينية لتلك المحاولات، ونجحت في تحجيمها، دون الوصول إلى مرحلة وضع حدٍّ لها، الأمر الذي أفسح المجال أمام تلك القوى، والقوى الأخرى الجديدة التي ولدتها هذه المرحلة، وتحالفت معها، العمل سوية من أجل الالتفاف على مشروع الميثاق الوطني ولي رقبته كي ينظر نحو الخلف بدلا من الاتجاه نحو الأمام. تمظهرت تلك الاجتهادات، بشكل أساسي، في توزيع الدوائر الانتخابية، التي بدأت تهف برياحها على رماد الطائفية كي تشعل نيرانها من أجل شَقِّ صفوف الوحدة الوطنية وتمزيق قواها السياسية.

يجد المواطن نفسه وقد لعق جراح زنازين سجون قانون أمن الدولة، لكن لم ينج من ألسنة نيران أفران الفتنة الطائفية، ولدغات ثعابينها ولسعات عقاربها، ما أدخله في مرحلة جديدة من الإحباط، تنعكس في سلوكيات سياسية تتناقض تماما مع القيم التي تدعو لها مرحلة ميثاق العمل الوطني، القائمة على الحوار السياسي السلمي بين قوى المعارضة، وأجهزة السلطة التنفيذية المختلفة.

أمامنا اليوم صورة مشوشة للوضع السياسي في البحرين يصعب التكهن بمعالم خريطة الهدم التي سيمسها، أو رسم حدودها، لكن الشيء المؤكد هو أن أول ضحاياه سيكونون من بين حملة رايات الميثاق الوطني، والمدافعين عن أهدافه، من المواطنين الذي وضعوا ثقتهم الكاملة في الميثاق. إن على عقلاء القوم من الأطراف كافة أن يبحثوا عن مخارج للتأزيمات، قبل فوات الأوان، وقبل أن يأتي من يترحم على أيام الاستعمار.

إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"

العدد 2525 - الثلثاء 04 أغسطس 2009م الموافق 12 شعبان 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً