اتبعت تونس في تطورها خلال العقدين الماضيين مسارين مختلفين تماما. ففي المجال الاقتصادي، انتهجت سياسة انفتاح مرفقة بإطار مؤسساتي يشجع المبادرة الحرة ويحترم على العموم حقوق الملكية مما نتج عنه تحقيق نتائج اقتصادية لا بأس بها (نحو 5 في المئة كمعدل نمو خلال هذه الفترة). بالمقابل وعلى الصعيد السياسي تضاءلت الآمال بحدوث أي تحول ديمقراطي بهذا البلد وذلك نظرا لتزايد مسلسل التضييق على الحريات السياسية والمدنية. إنها إذن حالة جديدة لتلك الأنظمة غير الديمقراطية التي تنجح في تحقيق معدلات نمو اقتصادية جيدة.
لكن، وحسب عالم الاجتماع الأميركي سيمور مارتن لييسيت فإنه كلما ارتفع الدخل الفردي في بلد ما وارتفع مستوى التربية والتعليم لدى ساكنته وازدادت درجة انفتاحه الاقتصادي إلا وظهرت بوادر حدوث تحول ديمقراطي به. لأن هذا يوسع من انتشار الطبقات الوسطى داخل المجتمع. تلك الطبقات التي غالبا ما شكلت المحرك الأساسي لمسارات التغيير السياسي والاقتصادي. في تونس وعلى رغم تحقيق كل تلك الشروط الاقتصادية لا نلاحظ ظهور أية بوادر لتحول ديمقراطي. لماذا إذن لا يؤدي النمو الاقتصادي إلى تحول ديمقراطي في هذا البلد؟ وما هي الأسباب التي تمنع الطبقات الوسطى لحد الآن من الدفع في اتجاه دمقرطة النظام؟
من الممكن أن يكون مستوى النمو الاقتصادي الذي وصلته تونس غير كاف للدفع في اتجاه تحول ديمقراطي؛ لأنه، وعلى رغم أن ما تم القيام به لحد الآن يسير في الاتجاه الصحيح لكن يبدو أن الاقتصاد التونسي لايزال في حاجة إلى إصلاحات ليبرالية أكثر عمقا. فهذا التقرير الدولي حول حقوق الملكية لسنة 2009 في المرتبة 40 عالميا (الأولى في المغرب العربي والثانية في إفريقيا). وهذا تقرير المنتدى الاقتصادي لدافوس حول التنافسية يصنف الاقتصاد التونسي كأول اقتصاد في إفريقيا والمغرب العربي وفي المرتبة 35 عالميا متجاوزا بذلك دولا أوربية كالبرتغال وإيطاليا واليونان.
لكن في حقيقة الأمر لاتزال هناك ثغرات تهم مجال القضاء الذي يعتبر ذا أهمية قصوى بالنسبة لحقوق الملكية وللتنافسية. وأي تحسن يطرأ على مستوى أداء هذا القطاع قد يؤدي إلى تحقيق نمو اقتصادي أكبر. من جهة أخرى حقق قطاع التربية والتعليم بتونس نتائج لا بأس بها إذ إن برنامج الأمم المتحدة للتنمية لسنة 2008 يتحدث عن نسبة 74.3 في المئة من التونسيين الذين يجيدون القراءة والكتابة وهي نسبة تعتبر جيدة على الصعيد الإفريقي لكن مقارنة مع الدول المتقدمة فإنه لابد من بذل المزيد من الجهود لتحسين الأداء بهذا القطاع.
إذن هل يمكن أن نقول إن النمو الاقتصادي بتونس لم يصل إلى المستوى الذي يسمح بحدوث تحول ديمقراطي؟ تتبعنا لتجارب دول أخرى قد يبعد هذه الفرضية أو على الأقل يضعف من أهميتها، فكوريا الجنوبية حققت تحولا ديمقراطيا في مرحلة كان فيها دخل الفرد أقل من مستواه الحالي في تونس(1460 دولارا مقابل 4000 دولار).
لقد كان للطبقة الوسطى دور تاريخي فاعل في التحول الديمقراطي (دور بورجوازية المدن في توطيد الديمقراطية في أوربا الغربية). لقد ساندت هذه الطبقة التغيير الديمقراطي لأنه يمنح إطارا سلميا يسمح لها بالحفاظ على مكتسباتها الاقتصادية ويبعد خطر الميول الثورية للطبقات الفقيرة.
أما في تونس فيبدو أن الغالبية قد استفادت من النمو الاقتصادي للعقدين الأخيرين. في هذا الإطار تتحدث التقارير الرسمية عن 80 في المئة من العائلات التي تمتلك سكنها. كما أن مظاهر البؤس والتهميش تخف حدتها في العاصمة التونسية مقارنة مع المشاهد التي قد نجدها في القاهرة أو الدار البيضاء.
إذن قد يكون لهذا الإطار الاجتماعي الذي تغيب فيه الفوارق الفاحشة ويتمتع فيه المواطن نسبيا بحقوقه الاقتصادية والاجتماعية دور في توطيد مساندة شرائح من المجتمع لهذا النظام السياسي حتى ولو لم يكن ديمقراطيا. ففي الوقت الذي لا يكون فيه النظام الديمقراطي هو الوحيد الذي يمنح السلم الاجتماعي.
فإن الطبقات الوسطى قد لا تطالب به خاصة إذا كان يحمل في طياته أخطار صراع مسلح.
منذ وصول الرئيس زين العابدين بن علي إلى السلطة سنة 1987 تعرض نظامه لمعارضة شديدة من طرف حزب النهضة الإسلامي. كما أن تفاقم الصراع بين الإسلاميين والنظامين المصري والجزائري قد أدى بالنظام إلى تقوية سلطته مستغلا بذكاء أحداث الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 وتفجير جربة سنة 2002 كي يقدم نفسه كواق ضروري أمام المد الإسلامي. الشيء الذي جعله يضمن مساندة أغلب الأنظمة الغربية بالإضافة إلى شرائح عديدة من المجتمع التونسي المرعوبة من المشاهد الدموية التي كانت تأتي من الجزائر طيلة عقد التسعينيات. وهنا لابد أن نؤكد على أن تنظيم انتخابات حرة وما نتج عنها من حرب أهلية بالجزائر لم يعط صورة جيدة عن التحول الديمقراطي داخل الأوساط التونسية بما فيها الطبقات الوسطى. هذه الأخيرة التي فضلت الاستقرار السياسي الذي يضمن لها مكتسباتها الاقتصادية ولو في ظل نظام غير ديمقراطي على تحول ديمقراطي مجهول العواقب قد يحمل في طياته صراعا مسلحا. والسؤال المطروح هو هل سيظل هذا الاختيار قائما حتى لو تغيرت الظروف الاقتصادية والسياسية بتونس؟ هل يمكن لوضع جهوي أكثر استقرارا أن يؤدي بالنظام إلى التوجه نحو انفتاح سياسي؟ هل يمكن لمستوى أكبر من النمو الاقتصادي أن يؤدي إلى التحول الديمقراطي المنشود؟ المستقبل وحده كفيل بالإجابة عن كل هذه الأسئلة.
*باحث في جامعة بول سيزان/ فرنسا والمقال ينشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2524 - الإثنين 03 أغسطس 2009م الموافق 11 شعبان 1430هـ